هشاشة النمو

يمر العالم اليوم بأزمة اقتصادية تحمل وتشابه بعض ملامح أزمة السبعينيات، إذا جاز الوصف، من حيث ارتفاع أسعار الوقود العالمية على وقع أزمة جيوسياسية حادة في شرق أوروبا، مع تضاعف تعثر سلاسل الإمدادات الذي بدأ مع الجائحة، مصحوبا بارتفاع في معدلات التضخم العالمية. ويبدو واضحا من هذه الأزمة أن الخروج من وضعية النمو الاقتصادي العالمي المنخفض لن يكون سهلا وسريعا. فالعوامل الثلاثة الرئيسة تجعل النمو هشا وبطيئا - وربما ضعيفا، وتوسع نطاق حالة عدم اليقين السائدة على الساحة العالمية. وتجلب هذه العوامل مخاطر الركود، بدءا من الآثار التي تركتها جائحة كورونا، وانتهاء بموجة التضخم العالمية، مرورا بتداعيات الحرب الأوكرانية الراهنة التي يبدو أنها بعيدة عن الحسم العسكري أو السياسي في آن معا. ويكفي هنا سبب واحد من هذه الأسباب ليضع النمو العالمي في دائرة الخطر، خصوصا في ظل مؤشرات تدل على أن الركود التضخمي ربما يسود المشهد العام بحلول العام الجاري. وهذا النوع من التضخم يظهر نتيجة نمو اقتصادي ضعيف مصاحبا لبطالة مرتفعة. أو ركود مع تضخم فشلت المحاولات المبذولة في السيطرة عليه. ويزيد عمق الأزمات، عندما يكون المشهد الاقتصادي العام أكثر اضطرابا.
من هنا يمكن النظر إلى توقعات البنك الدولي للنمو العالمي الذي خفضه 1.2 نقطة مئوية إلى 2.9 في المائة للعام الجاري، الأمر الذي يدفع عديدا من الدول نحو الركود. ويجعل المشهد أكثر سلبية، وأن النمو العالمي حقق العام الماضي 5.7 في المائة. ورغم أن هذا النمو أتى أساسا في سياق تعويض انكماش عالمي خلال عام جائحة كورونا، إلا أنه كان يعد نقطة انطلاق إلى مزيد من النمو في عام 2022، على أن يتراجع بنسبة مقبولة في عامي 2023 و2024 عندما تستقر الأوضاع الاقتصادية العالمية بعيدة عن الاضطرابات والمؤثرات المباشرة وغير المباشرة. لكن هذه الحسابات خرجت عن السياق، ودفعت المشرعين الاقتصاديين حول العالم إلى إعادة النظر ليس فقط في توقعاتهم الاقتصادية المستقبلية، بل في مسار العوامل التي تشكل المشهد العام حاليا.
تباطؤ النمو ليس حكرا على منطقة دون أخرى، فهو يصيب الدول المتقدمة عند حدود 2.6 في المائة هذا العام، والناشئة في حدود 3.4 في المائة فقط. أما لماذا فقط؟ فلأن هذه الدول تتمتع عادة بنمو أعلى بفروق واضحة عن النمو في الأسواق المتقدمة. ومن أهم أسباب النمو الضعيف تلك المتعلقة بمشكلات متلاحقة على صعيد سلاسل التوريد. فهذا الجانب أرهق الاقتصاد العالمي حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا والجائحة، وتحدث الآن عمليات يمكن تسميتها "إعادة التخطيط في الميدان"، سواء عبر مسارات الإمدادات أو حتى طبيعتها. لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت للوصول إلى الأهداف التي تم وضعها بالفعل، بما في ذلك أن تكون مصادر الإمدادات أكثر قربا من ميادين الإنتاج. كل هذه الأسباب وغيرها ستبقي النمو العالمي على مستوياته المنخفضة، وهو ما سيؤدي - في حال استمر ضعف النمو - إلى الدخول في مرحلة ركود لا يمكن للاقتصاد العالمي تحملها والتخلص والتحرر منها بسهولة، وهو تحت ضغوط مختلفة.
ومن الواضح أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومات حول العالم لتحفيز النمو لم تسفر عن شيء لافت. صحيح أن المخاطر ترتفع في ظل غياب إجراءات قوية، لكن الواضح أيضا أن الحكومات لم تعد تقوى على اتخاذ إجراءات ذات فاعلية قوية وسريعة. فالفائدة التي ترفعها بين الحين والآخر تؤثر سلبا في مسار النمو المأمول، وترفع البطالة، وتزيد ضغوط الديون الفردية والعامة في آن معا. وليست هناك إجراءات ناجعة في ظل عوامل الاضطراب الاقتصادي العالمي المشار إليها.
ولذلك سيكون النمو المنخفض ذاته مهددا في الأشهر المتبقية من العام الجاري، ما لم يمتص العالم صدمات وتداعيات كورونا، ويحتوي آثار التدخل العسكري في أوكرانيا، وينجح في إيجاد بدائل على صعيد سلاسل التوريد، ويستوعب الركود التضخمي. إنها مهمة صعبة للغاية، على الأقل في هذا الوقت.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي