الوسطاء يدفعون عجلة الرأسمالية .. ويشوهونها

الوسطاء يدفعون عجلة الرأسمالية .. ويشوهونها

آدم سميث، والد الرأسمالية الحديثة، هو صاحب المقولة الشهيرة إن الأسواق العادلة تتطلب إطارا أخلاقيا مشتركا بين البائع والمشتري. هذا ليس مفاجئا، بالنظر إلى أن أفكاره خرجت من سوق القرن الـ18، حين كان المنتجون والمستهلكون جيرانا على الأرجح. لقد أخذنا التقدم في التكنولوجيا والنقل والاتصالات شوطا طويلا منذ ذلك الحين، ما أدى إلى إنشاء سلاسل توريد عالمية معقدة. أدت هذه العوامل إلى خفض أسعار المستهلك، لكنها أدخلت مخاطر خاصة بها، من قوة الاحتكار التي تؤدي إلى تشويه السوق إلى استغلال العمالة والتدهور البيئي.
ظهور الشركات الوسيطة القوية - الموجودة في أسواق المنتجات المادية وفي أسواق رأس المال العالمية ـ كان أحد تكاليف سلاسل التوريد هذه. تشمل هذه شركات مثل "كارجيل" التي تنقل أكثر من 200 مليون طن من المواد الغذائية والبضائع الأخرى سنويا، وأي عدد من المؤسسات المالية الكبيرة التي تقدم أوراقا مالية معقدة، ومنصات عمالقة التكنولوجيا مثل "أمازون"، وكبار تجار التجزئة مثل "وولمارت" أو حتى سماسرة العقارات الذين يتوسطون بين مشتري المنازل والبائعين.
تجادل كاترين جادج، من جامعة كولومبيا، في كتابها الجديد "صعود اقتصاد الوسيط"، بأن هؤلاء الوسطاء هم من يحركون عجلة الرأسمالية، لكنهم أيضا يشوهونها بطريقة تقوض اقتصادنا ومجتمعنا. كتبت، يتيح لنا الوسطاء "شراء السلع المصنوعة في الجانب الآخر من العالم، وبناء محفظة استثمارية متنوعة، وطلب البقالة من على أريكتنا المريحة". لكن هذه القوة الرابطة "تقوض المساءلة" من خلال إيجاد قدر كبير من الانفصال بين المشتري والبائع بحيث يستحيل حصر التكلفة الحقيقية للراحة والأسعار المنخفضة.
هناك كثير من الأمثلة لدعم هذه القضية، من المنسوجات المصنوعة من عمالة الأطفال، إلى تفشي الإشريكية القولونية في سلاسل التوريد الغذائية المعقدة، إلى الأجر غير المتناسب الذي يأخذه الوسطاء في الخدمات المالية أو تكنولوجيا المنصات. في الحالة الأخيرة عدم تناسق المعلومات يجعل من الصعب على المشاركين في السوق الحصول على فهم مشترك لما يتم شراؤه وبيعه "شيء آخر يعتقد سميث أنه شرط مسبق للأسواق التي تعمل بشكل جيد".
من المؤكد أن العولمة المفرطة والتركيز الشديد لقوة الشركات من العوامل الكامنة وراء فشل السوق، بدءا من أزمة الرهن العقاري في 2008 إلى نقص سلسلة التوريد في الأعوام الأخيرة. لكن جادج تعتقد أن "نمو اقتصاد الوسيط" بحد ذاته هو المشكلة لأنه يزيل المسؤولية، حتى الأخلاق، داخل نظام السوق لدينا.
لنأخذ، مثلا، كيف تغير مشهد ملكية أسهم الشركات العامة في العقود الأخيرة. في 1950 كان 6.1 في المائة فقط من هذه الأسهم في الولايات المتحدة مملوكا للمؤسسات والباقي مملوك بالكامل لأفراد صوتوا على مسائل مثل من يجب أن يجلس في مجلس الإدارة. اليوم يمتلك الوسطاء المؤسسيون، مثل صناديق التقاعد وصناديق الاستثمار المشتركة وصناديق التحوط وما إلى ذلك، 70 في المائة من هذه الأسهم. يستخدم معظمهم وسيطين كبيرين آخرين، هما المستشاران في الوكالة آي إس إس وجلاس لويس، لوضع علامات في المربعات الخاصة بمسائل تصويت الشركات، على الرغم من الجهود التي تبذلها لجنة الأوراق المالية والبورصات لاتخاذ إجراءات صارمة ضد مثل هذا "التصويت الآلي". كل هذا يجعل المساءلة الاجتماعية الحقيقية للشركة صعبة.
هناك كثير من الأمثلة الأخرى. فهل من المستغرب، بعد عقود من نظام السوق الذي يسيطر عليه الوسطاء الذي يركز على التكاليف المنخفضة والعوائد المعدلة حسب المخاطر الأعلى و"الكفاءة"، أن يكون لدينا مزيد من التقلبات المالية، ومزيد من الاضطرابات في سلسلة التوريد وارتفاع درجة حرارة الكوكب؟
السؤالان الكبيران هما كيفية إحداث تغيير في النظام ومن يتحمل تكلفة ذلك. لا توجد إجابات سحرية لأي منهما، على الرغم من أن التكنولوجيا توفر إمكانات جديدة لربط المشترين والبائعين. ظهور الإقراض من القرين إلى القرين، وتجار التجزئة الذين يتعاملون مباشرة مع المستهلك، والطباعة ثلاثية الأبعاد التي تسمح بسلاسل إمداد أقصر كلها أمثلة على ذلك، على الرغم من أن أيا منها لا يملك الآن من الحجم ما يسمح باستبدال الأنظمة الحالية للتمويل أو التصنيع.
قد يكون من المفيد إجراء إحصاء أفضل وأوضح لتكاليف المدخلات في نظام السوق الحالي. تماما كما أن طباعة القوالب الخشبية الشائنة، العائدة إلى القرن الـ18، التي تظهر سفينة العبيد المكدسين في ظروف مروعة قد غيرت الطريقة التي يرى بها الأفراد العاديون وعاء السكر الخاص بهم، فإن الكمية المتزايدة من الأبحاث التي تكشف عن العلاقات بين أشياء مثل الطعام الرخيص والسمنة، أو الموضة السريعة وأماكن طمر النفايات، أو التوريق المعقد والإقراض المفترس، قد تساعد اليوم على إيجاد الطلب على نظام سوق أكثر عدلا واستدامة.
تحديات التضخم "التي ستدفع بعض المستهلكين وصانعي السياسات إلى الوراء نحو الأسعار المنخفضة باعتبارها المقياس الوحيد للرفاهية" والقصور الذاتي، سيشكلان رياحا عكسية قوية ضد تغيير النظام. مع ذلك، من المهم أن نتذكر أن التغيير يحدث بالفعل في بعض المناطق، وإن كان ببطء. تشير جادج، وهي خبيرة في التنظيم المالي، إلى أننا بدأنا للتو، بعد نحو 15 عاما من أزمات 2008، في استيعاب كيف أدت إزالة طبقات التعقيد من أنظمة الإقراض إلى بنوك أكثر استقرارا ومستهلكين أقل مديونية.
تماما، مثلما دفعتنا أزمة الرهن العقاري إلى فحص تكاليف الوسطاء في التمويل، فإن اضطرابات سلسلة التوريد اليوم قد تجبرنا على حساب التكلفة الحقيقية للأسعار المنخفضة للسلع والخدمات الأخرى.

الأكثر قراءة