عالم متغير بابتكارات تقنية
التطورات أو التحولات الفنية المتسارعة في ميدان التقنية الرقمية تمثل محورا أساسيا في الحراك البشري العام في هذا العصر، وضعت مسألة التشفير ومستقبلها في موقف متراجع وهش في ظل تنامي قوة ما يعرف عند المختصين باسم "الحوسبة الكمية". وبتعريف مبسط لهذه الأخيرة، فهي عبارة عن أدوات أو آلات تستخدم الظاهرة الفيزيائية الكمية، من أجل رفع السرعة الحسابية بما يفوق قدرات أجهزة الكمبيوتر الحالية. فهي سريعة إلى حد يصعب على أجهزة الكمبيوتر التقليدية المعروفة والمنتشرة التناغم معها، وبالتالي، تعد قادرة على كسر أي نوع من أنواع التشفير الضرورية. وهذه "الحوسبة" تمثل في النهاية نقلة نوعية على صعيد ما يمكن تسميته "الثورة الرقمية"، لأنه يمكنها تحليل كميات هائلة من البيانات، والوصول إلى استنتاجات عالية الجودة، بما في ذلك "مثلا" الاكتشاف المبكر للأمراض، حتى اكتشاف مجرات بعيدة.
هذه المسألة أثيرت في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير، وكانت محور نقاش جاد ومطول حولها، بعد أن حرص خبراء في الحوسبة الكمية على عرضها وتقديم روابطها وآفاقها وتأثيرها في العالم الرقمي بشكل عام. وتبنى هذا التجمع العالمي فكرة أن هذا التحول التاريخي والانتقال إلى عالم الحوسبة الكمية يحتاج إلى معالجة المخاوف الأخلاقية والاجتماعية والقانونية أولا قبل التوسع في تطبيقه واستخدامه في الأنظمة التجارية وتمثل هذه الفكرة المطروحة تدخلا مبكرا وبداية لتوجه عالمي متعدد التخصصات من شأنه توجيه تطوير الحوسبة الكمية لمصلحة المجتمع بأسره.
ويتفق الخبراء على أن الثورة المقبلة في مجال المعلوماتية ستقودها الحوسبة الكمية بفضل ما ستوفره من قدرة هائلة على معالجة المعلومات وإنجاز مهام تعجز أقوى الحواسيب التقليدية عن القيام بها. و"الحوسبة" تتقدم بالفعل، على الرغم من أنها لا تزال في مراحلها الأولى، مستفيدة بالطبع من اتساع رقعة الابتكارات، وجودة الاتصالات، وتراجع التكاليف.
وهنا لا بد أن نشير إلى نقطة مهمة قبل انتقال العالم إلى الحوسبة الكمية بأن التكنولوجيا الرقمية في البداية تتمحور حول مسألة أساسية مرتبطة بما يعرف بـ"التشفير". وهي ليست مفهومة ومعممة تماما على نطاق واسع، نظرا لتعقيداتها الفنية، التي تسمح فقط لقلة من المختصين بالخوض فيها، وقراءة مستقبلها، وتوفير المعلومات المفهومة بحدود مقبولة بالنسبة إلى القاعدة العريضة من مستخدمي أجهزة الكمبيوتر، كأدوات لتسيير جانب مهم من حياتهم اليومية، إن لم يكن كلها.
وهذا الجانب له مخاطره المستقبلية مثلما له مزاياه. إلا أن المخاطر تشكل الهم الأكبر بالنسبة إلى أولئك الذين يعتقدون أن الساحات التي لن تكون مستعدة للتحولات الفنية المتسارعة في هذا الميدان، ستنال القدر الأكبر من الخطر. فالمسألة لا تتعلق فقط، بمسايرة التحولات، بل بالوصول إلى الحد الأدنى من الثقافة التي تكفل في النهاية مسارا انسيابيا في عالم متغير بوتيرة تفوق حتى توقعات المختصين أنفسهم.
والسؤال المطروح هنا: هل الساحة مستعدة للحوسبة الكمية الآن؟ الجواب ببساطة هو النفي، لكن هناك مجالا للتحضير لوصولها وانتشارها، يوفره الزمن، لأن هذه الحوسبة لا تزال في مراحلها الأولى، ونشر "الثقافة" اللازمة للتعاطي معها ممكن باستغلال الوقت الفاصل بينها وبين حضورها على الساحة. وهذا لم يتم على سبيل المثال مع موجات الذكاء الاصطناعي، ولا سيما الروبوتات التي دخلت الحياة البشرية بعيدا عن أي معايير أخلاقية، بحسب عدد من المختصين.
فالتوعية واجبة، والنقاش حول "القادم الجديد" ضروري جدا، لأن ذلك يوفر للساحة إمكانية استمتاع الناس بفوائد الحوسبة الكمية، التي تعتمد على السرعة في إيصال الخدمات بأنواعها، وبالتالي تضمن الجودة للخدمات، على أساس أن قدرتها على تحليل البيانات بكل أنواعها وحجمها وروابطها بلا حدود. إنها مسألة تتعلق بالتحضير لأدوات ستفرض نفسها في النهاية على الساحة الرقمية العالمية، بصرف النظر عن حالة هذه الساحة.