عزل اقتصادي دون اصطدام .. هل تصمت الصين على ما يحدث في فنائها الخلفي؟

عزل اقتصادي دون اصطدام .. هل تصمت الصين على ما يحدث في فنائها الخلفي؟

يعتقد الصينيون أن المعركة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وبلادهم من أجل التفوق الاقتصادي في آسيا بدأت رسميا.
فمن العاصمة اليابانية طوكيو أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أخيرا مبادرة رسمية للشراكة الاقتصادية مع 12 دولة في المحيطين الهندي والهادئ، فكان رد فعل السلطات الصينية مباشرا وحادا وغاضبا، فقد وصفوا المبادرة الأمريكية بأنها آخر ما تفتقت عنه ترسانتها من الأسلحة الاقتصادية، لفصل الصين عن محيطها الجغرافي.
وخرج المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ليعلق على موقف بلاده من الخطوة الأمريكية بطرح تساؤل يوضح كيف تنظر وتقيم الصين ما يحدث، "هل تقوم الولايات المتحدة بتسييس وتسليح القضايا الاقتصادية وإجبار دول المنطقة عبر الوسائل الاقتصادية إلى الانحياز إلى الصين أو الولايات المتحدة".
بالفعل كان هذا التساؤل جوهر ما يقلق القيادة الصينية، فالشراكة الأمريكية مع الـ 12 دولة "اليابان والهند وأستراليا وفيتنام وسنغافورة وبروناي والفليبين ونيوزيلاندا وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا" تدفع الصين بعيدا إلى الزاوية، وتجعلها تبدو وحيدة في محيطها الإقليمي الطبيعي.
كما أن تلك التطورات تكشف أيضا أن العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم آخذة في التدهور مع تزايد حدة التنافس بينهما على النفوذ التجاري عالميا، وفي آسيا على وجه التحديد، خاصة أن أغلب التوقعات إن لم يكن جميعها يصب في اتجاه أن القارة الصفراء ستدفع النمو الاقتصادي الدولي لعقود قادمة.
يعتقد عدد من الخبراء أن ما يحدث يكشف أن إدارة الرئيس بايدن تتخذ موقفا أكثر تصادمية بشكل عام في علاقاتها مع الصين، وهي قضية كانت إلى حد كبير في الخلفية خلال العام الأول من وجود الرئيس الأمريكي في منصبه، حيث انصب تركيز البيت الأبيض على محاربة تفشي وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية.
هل تصمت الصين على ما يحدث في فنائها الخلفي؟ يستبعد الخبراء ذلك، إذ يتوقع أن تضاعف جهودها لتقوية العلاقات التجارية الحالية مع بلدان المنطقة، ومواصلة تعزيز نفوذها، يدفعها في ذلك القلق من أن الدافع الأساسي للولايات المتحدة يكمن في الرغبة في تهميشها أو الحد بطريقة ما من قدرتها على مواصلة نموها الاقتصادي.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" إم. مورسون، أستاذ مساعد للاقتصاد الآسيوي في جامعة كامبريدج، إنه "يمكن للصين أن تقدم لدول أخرى في المنطقة حوافز وامتيازات اقتصادية يمكن أن تقوض التواصل الأخير مع الولايات المتحدة، فتجارة الصين مع دول جنوب شرق آسيا تتجاوز بالفعل الولايات المتحدة، ويمكنها الآن تسريع خططها لتوسيع تلك العلاقات بشكل أكبر من خلال الاتفاقيات التجارية الحالية".
وأضاف "كما يمكنها زيادة استثماراتها الأجنبية المباشرة في الشركات المشتركة وزيادة التمويل لمشاريع البنية التحتية أو الطاقة النظيفة، ما يزيد من ترسيخ روابطها الاقتصادية مع جميع بلدان المنطقة".
الجانب الأمريكي من جهته، يرى أن الصين تفتعل ضجيجا إقليميا مبالغا فيه، ويتهمها باستمراء دور الضحية، حيث إن "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ" لا يعد اتفاقية تجارة حرة، ولكنه مسعى لمزيد من التكامل بين الدول الأعضاء في أربعة مجالات رئيسة هي الاقتصاد الرقمي وسلاسل الإمداد والبنية التحتية للطاقة النظيفة ومكافحة الفساد.
كما أن الدول الأعضاء في هذا الإطار الاقتصادي وعلى الرغم من أنها تشكل معا 40 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، فإن التعاون بينها لا يخرج عن السعي لتحويل منطقة المحيطين الهندي والهادي لمنطقة حرة ومنفتحة وشاملة ومتربطة ومرنة وآمنة ومزدهرة اقتصاديا، كما جاء في البيان التأسيسي.
يضاف إلى ذلك تأكيد مستشار الامن القومي الأمريكي أن المبادرة ليست أكثر من "منصة مفتوحة" يمكن أن تضم دولا أخرى على المدى الطويل، ما جعل البعض يقرأ هذا التصريح باعتباره رسالة مبطنة للصين بأنه سيتم الترحيب بها، إذ رغبت في الانضمام يوما ما، لكن بشروط الدول الأعضاء وخاصة شروط واشنطن.
مع هذا يرى عدد من الخبراء ومن بينهم أوفرلي ستيف، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز والاستشاري السابق في عدد من المؤسسات الدولية "أن الخطوة الأمريكية تكشف أنه لم يعد هناك إطار عمل عالمي متفق عليه، وأن إدارة بايدن تطرح مجموعة من المبادرات البديلة والمتداخلة والمتنافسة، ما يفقد العمل الجماعي الدولي قدرته على دفع النمو الاقتصادي العالمي".
لكنه يضيف أن ذلك لا يعني رغبة أمريكية في الصدام التام مع الصين، فالوضع الدولي الراهن وسلسلة العقوبات الحادة المفروضة على روسيا لا تسمح لواشنطن بخوض حربين اقتصاديين في آن، كما أن قوة العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين تحول دون ذلك أو تمنع اندلاع حرب اقتصادية تجارية على نطاق واسع وشامل.
وأشار ستيف إلى أنه في 2021 كانت الصين رابع شريك تجاري للسلع للولايات المتحدة بإجمالي تجارة بلغ أكثر من 657 مليار دولار، ورابع أكبر سوق تصدير للولايات المتحدة بنحو 506 مليارات دولار، ونمت التجارة الأمريكية مع الصين العام الماضي 18 في المائة تقريبا.
وتابع أنه على الرغم من تباطؤ الاستثمار الأجنبي المباشر بين البلدين منذ 2016، فإنه لا يزال ضخما، فمخزون الاستثمار الأجنبي المبشر الأمريكي في الصين بلغ نحو 124 مليار دولار، بينما كان رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في الولايات المتحدة نحو 55 مليار دولار، كما أن إدارة بايدن تدرس إمكانية التراجع عن الرسوم الجمركية على الواردات الصينية للمساعدة في الحد من التضخم.
يكشف ذلك أن الصين تظل شريكا تجاريا مهما للولايات المتحدة وبالطبع لعديد من دول المحيطين الهندي والهادئ، التي ستشارك في الإطار الاقتصادي المقترح لإدارة بايدن، فضلا عن كون الصين مصدرا رئيسا لتمويل البنية التحتية والاستثمار التجاري في المنطقة.
هذا يجعل الخبير الاستثماري الدولي روبرت هارلي يعرب عن خشيته من أن تؤدي الأفكار الأمريكية الخاصة بالإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي إلى فصل اقتصادات المنطقة، وتقيد التبادل التكنولوجي، وإعاقة سلاسل التوريد، وهذا سيترك بصمات سلبية على اقتصادات المنطقة والاقتصاد العالمي بما في ذلك الاقتصاد الأمريكي ذاته.
وقال هارلي لـ"الاقتصادية"، "ربما أبرز نقاط الضعف في التحرك الأمريكي الأخير، أن مقترح الإدارة الأمريكية يبدو من وجهة نظر البعض محاولة لعزل الصين اقتصاديا، لكن في الوقت ذاته يسعى إلى تفادي الاصطدام التام معها، وبات ذلك واضحا من عدم إدراج تايوان داخل تلك المجموعة، وذلك على الرغم من أن تايوان مركز عالمي في مجال صناعة أشباه الموصلات، التي تعاني في الوقت الراهن نقصا شديدا، ما ترك آثارا سلبية على صناعة السيارات وكثيرا من الصناعات التكنولوجية الأخرى".
مع هذا يستشهد الصينيون بالتصريحات الصادرة من كبار المسؤولين الأمريكيين، ويعدونها مؤشرات تظهر العداوة الاقتصادية لبلدهم، في وقت يضغط فيه التضخم على آفاق نمو الاقتصاد العالمي، وبما يتطلبه ذلك من تعاون جماعي لتفادي انزلاق الاقتصاد الدولي نحو أوضاع اقتصادية أكثر سوءا.
كما أن التصريحات المتتالية من قبل المسؤولين الأمريكيين والمعادية للصين توجد أيضا رأيا عاما شعبيا ينظر لبكين بصورة سلبية، فوفقا لاستطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث، فإن 82 في المائة من الأمريكيين ينظرون الآن إلى الصين بشكل سلبي، مقارنة بـ 47 في المائة فقط 2018، وأفاد استطلاع آخر أجرته مؤسسة جالوب العام الماضي أن 45 في المائة من الأمريكيين ينظرون إلى الصين بصفتها العدو الأكبر لأمريكا، وذلك أربعة أضعاف ما كان عليه الوضع عام 2018.
وقبل أيام صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بيلينكين تعقيبا على اتفاق الإطار الاقتصادي المقترح، أن الولايات المتحدة ستعزز الاستثمار المحلي والتعاون مع الشركاء الأجانب وتقدم رؤية لنظام دولي شامل وشفاف يتعارض مع نهج الصين، عادا أن الصين تشكل أخطر تحدي طويل الأمد للنظام الدولي.

الأكثر قراءة