الانفتاح بما يكفل المصالح
بصرف النظر عن المنغصات والعوامل السلبية المثيرة للقلق التي كانت تحدث على الساحة الاقتصادية العالمية نهاية الألفية السابقة وبداية الألفية الحالية، إلا أن المخططات والمشاريع الدولية، ومعها الحراك الاقتصادي العالمي العام، صنعت بيئة اقتصادية تنموية اجتماعية، وحققت قفزات نوعية على صعيد خفض مستوى الفقر، والعوز، والجهل، في مناطق مختلفة حول العالم.
كيف حدث ذلك؟ عبر تعاون دولي واضح، واستقرار عالمي أكثر وضوحا، ساهما في تشجيع تدفقات رأس المال والسلع والخدمات والأفراد، ما وفر قوى دفع كبيرة للمشاريع التنموية المطروحة، الأمر الذي يفسر زيادة حجم الاقتصاد العالمي في ظل هذه البيئة بمقدار ثلاثة أضعاف، بينما خرج نحو 1.3 مليار نسمة من براثن الفقر المدقع، أي أن العملية كانت متكاملة وتحلق بجناحين قويين، تدفقات مالية، وخطط تنموية ناجحة.
اليوم تخشى المؤسسات العالمية الرئيسة من بينها صندوق النقد الدولي، مما تسميه التشتت الجغرافي الاقتصادي، مع ارتفاع حدة التوترات، في ظل حالة من التراخي، تسهم حاليا في تفاقم عدم المساواة في توزيع الدخل والثروة والفرص لمدة طويلة في عدد كبير من الدول. وتؤكد المؤشرات الاقتصادية على أن هذا الخلل أصبح منتشرا بين الدول في الأعوام الأخيرة، كما أن هذا التشتت يحمل معه مخاطر متعاظمة، يمكن أن تدوم طويلا، طالما ظل خارج نطاق السيطرة، مع ضرورة الإشارة إلى أن الأعوام القليلة الماضية، شهدت معارك تجارية، كانت عاملا رئيسا لما وصلت إليه البيئة الاقتصادية دوليا، فهذه المعارك وقعت حتى بين الحلفاء التقليديين التاريخيين أنفسهم، خصوصا في الفترة التي كان فيها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في البيت الأبيض. وإذا ما استمر حال الاقتصاد العالمي على هذا المنوال، فلا غرابة أن يواجه العالم أكبر اختبار حقيقي منذ الحرب العالمية الثانية، خصوصا مع تزايد ضغوط ومخاطر ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، واضطرار الأغلبية العظمى من الحكومات حول العالم، إلى اتخاذ إجراءات غير مرغوبة للسيطرة على التضخم، وعلى رأسها رفع الفائدة التي تقوض مسار النمو، ولا سيما في أعقاب انكماش جلبته إلى الساحة الدولية جائحة كورونا على مدى عامين تقريبا.
ماذا يحدث حاليا؟ أقدمت الدول المنتجة للغذاء والسلع الأساسية على فرض قيود تصديرية على منتجاتها، بما في ذلك تلك التي توفر نسبة كبيرة من الاحتياجات العالمية من الحبوب وزيوت الطعام، ولذلك فإن تكلفة التشتت الجغرافي الاقتصادي المصنوع من عوامل متعددة ستكون باهظة، ويصعب التخلص منها في فترة قصيرة.
هذه المشكلة تشمل كل الشرائح في الدول المتقدمة والناشئة على حد سواء، فأصحاب الدخل المرتفع والمنخفض يواجهون الهموم وإن بمستويات متباينة بالطبع، والتشتت الذي يجري التحذير منه، ألغى استراتيجية عالمية سادت على مدى العقدين الأخيرين من الألفية السابقة، وجزءا من العقد الأول من القرن الحالي.
وقامت هذه الاستراتيجية على حراك الاندماج، الذي عزز الإنتاجية في كل الميادين، وأسهم بالطبع في رفع حجم الاقتصاد العالمي ككل. التشتت التكنولوجي وحده سيؤدي إلى خسارة 5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في كثير من الدول، وهو ما تؤكده أرقام صندوق النقد الدولي. الوضع العالمي يمر بمرحلة أكثر من حرجة، في حين لا توجد أي محاولات ناجعة لتغييره بما يكفل تجنب الحجم الأكبر من الأضرار.
المعضلة أن الحلول واضحة، وكلها تستند إلى ضرورة تقوية التعاون التجاري، والتخلص من الحمائية المتنامية هنا وهناك، والانفتاح بين الدول بما يكفل مصالحها كلها دون استثناء، وهذا التعاون يمكنه أن يحل مشكلات محورية ذات صلة بالمشهد الاقتصادي العام، بما في ذلك أزمة الديون التي باتت هما شاملا للدول الغنية، والفقيرة على حد سواء.