سوق كبيرة .. إيجابيات وثغرات
الاقتصاد التشاركي ظاهرة اقتصادية مهمة شهد العالم تطبيقها على نطاق واسع أخيرا، إذ يعد أحد أسرع الاتجاهات التجارية نموا في التاريخ، فمنذ 2010 ضخ المستثمرون نحو 23 مليار دولار في تمويل الشركات الناشئة التي تعمل مع نموذج قائم على الحصص أو الأسهم.
ومفهوم التشاركية ليس جديدا، حيث ازدهرت الفكرة في عديد من المجتمعات الريفية عبر نظام المقايضة، لكن هذا النموذج تطور خلال الأعوام القليلة الماضية، وأصبح الآن مصطلحا شاملا يشير إلى مجموعة من المعاملات الاقتصادية عبر الإنترنت، مثل العمل المشترك، والعمل الحر، والتمويل الجماعي أو الإقراض من نظير إلى نظير حيث يسمح للأفراد بإقراض الأموال لأفراد آخرين بأسعار أرخص مما تقدمه هيئات الإقراض الائتماني التقليدية.
وغالبا يعرف الاقتصاد التشاركي بأنه نشاط نظير إلى نظير - يساعد على اقتناء أو توفير أو مشاركة إمكانية الوصول للسلع والخدمات التي يتم تسهيلها من خلال مجتمع قائم على المنصات الإلكترونية. ويسمح الاقتصاد التشاركي للأفراد والجماعات بجني الأموال من الأصول غير المستغلة، وبهذه الطريقة، تتم مشاركة الأصول المادية كخدمات.
ولا أحد يمكنه أن يحدد الاستخدام الأول لمصطلح ليس متداولا كثيرا هو الاقتصاد التشاركي، وإن كان قد ظهر عمليا على الساحة في نهايات العقد الأول للألفية الحالية. لكنه صار حقيقة واقعة على الساحة، خصوصا أنه بات منذ انطلاقه مرتبطا بقوة بالتحولات التكنولوجية التي لا تنتهي في ميدان الإنترنت. فلولا الشبكة الدولية ما كان هذا الاقتصاد الذي يمكن تسميته أيضا الاقتصاد التعاوني حاضرا بقوة، لأن الأدوات التي توفرها الإنترنت تعد أساسية له، من خلال سهولة الاتصال بين الأطراف المعنية به، وسرعة الوصول إلى الميادين التي تحتضنه، أضف إلى ذلك الخيارات الواسعة المطروحة ضمن حراكه. فعرض ممتلكات جهة أو شخص على طرف آخر يتم مقابل مكافأة، قد تكون مالية أو تبادلية أو غير ذلك من أشكال العوائد إن جاز التعبير.
ولمزيد من التوضيح يمكن القول، إن مالك سلعة ما يتنازل عنها، أو عن ملكيتها في بعض الأحيان لطرف آخر مقابل أجر. وهناك حالة أخرى لا تحدث كثيرا إلا في أوقات الأزمات، يمكن أن تدخل في نطاق الاقتصاد التشاركي، مثل قيام أوروبيين مؤيدين لأوكرانيا في حربها أخيرا، بحجز رحلات سياحية إلى هذا البلد، دون أن يقوموا بها، أي: أن الأموال التي دفعوها بالفعل تذهب لدعم المجهود الحربي الأوكراني. فهم في الواقع تبرعوا عبر صفقة سياحية يعرفون أنها لن تستكمل بقضاء عطلاتهم من خلالها. وبصرف النظر عن ظهور بعض الجهات التي استغلت هذا الشكل من الدعم، وقامت بعمليات احتيال للاستحواذ على ما أمكن من الأموال، إلا أن الصيغة في النهاية ليست أقل من اقتصاد تعاوني خالص، مع تأكيد خسارة طوعية من طرف إلى طرف آخر.
الاقتصاد التشاركي ليس صغيرا، لمجرد أنه ليس متداولا على الساحة الإعلامية بما يكفي. فوفق مؤسسة "بي دبليو بي" البحثية، قدرت عائدات الجهات أو الشركات التي تعمل في هذا النطاق الاقتصادي بوصولها إلى 335 مليار دولار بحلول 2025، بزيادة 22 مرة مقارنة بـ2013. في حين تشير مؤسسات مختصة إلى أن القيمة السوقية للاقتصاد التشاركي ستصل عالميا إلى 1.5 تريليون دولار بحلول 2024. فالسوق كبيرة وتتسع، مع تدفق الأدوات الجديدة المطورة للإنترنت، فضلا عن تزايد عدد الواصلين إلى عمق الشبكة الدولية بصورة يومية تقريبا. والتعريفات لهذا النوع من الاقتصاد كثيرة، مثل تقسيم الأصول أو الخدمات بين الأفراد، مقابل رسوم أو مجانا، ويتم ذلك عبر شركة مختصة بالخدمات التي توفرها عبر الإنترنت.
واللافت أن الاقتصاد التشاركي ليس مثاليا تماما، كما كان يعتقد. لماذا؟ لأنه يدخل في النهاية في جانب أساسي منه عبر الوسطاء أو الجهات الرابطة بين الأطراف. وهذا ما يطرح أسئلة كثيرة حول الأطراف المستفيدة بصورة كبيرة منه الذين يشكلون في النهاية مجموعة من مقدمي الربط بين طرفين يستهدفان التعاقد على أساس تعاوني مباشر. فمؤسسة "آيباي" مثلا تحصل على عمولات ضخمة نتيجة عقد هذا النوع من الصفقات، ما جعلها وغيرها من الشركات المشابهة مؤسسات كبرى عابرة للقارات. أي: أن الثغرات في الاقتصاد التشاركي أو التعاوني واسعة في مجال ينبغي أن يكون خاليا من العمولات أو رسوم الخدمات. لكن في النهاية يبقى هذا الاقتصاد في مسار النمو، وإن غابت المؤشرات التي تدل على إمكانية إدخال إصلاحات عليه ولا سيما فيما يتعلق بالوسيط القائم بين طرفين يريدان التعاقد مباشرة.
ويبدو أن المسألة تتطلب مزيدا من الوقت، في ظل تقدم تكنولوجي لا يتوقف ويسهم مباشرة في تعزيز مكانة وحضور الاقتصاد التشاركي على الساحة الدولية.