«خبز على طاولة الخال ميلاد» .. فوز ثمين لرواية عاصفة
على غير المتوقع، انتزعت رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" فوزا ثمينا، بعد أن حصدت رواية الكاتب محمد النعاس الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بـ"البوكر العربية"، في دورتها الـ15 من الجائزة.
الرواية التي تقع أحداثها في ليبيا، تفوقت على خمس روايات وصلت إلى القائمة النهائية، هي "ماكيت القاهرة" للمصري طارق إمام، و"يوميات روز" للإماراتية ريم الكمالي، و"الخط الأبيض من الليل" للكويتي خالد النصر الله، و"أسير البرتغاليين" للمغربي محسن الوكيلي، و"دلشاد" للعمانية بشري خلفان، التي حصلت على توقعات بالفوز من حشد من الأدباء والمثقفين والقراء، لم تتحقق.
صورة رمزية
"أرفع نوافذي إلى أعلى حتى تستطيع أشعة الشروق التسلل منها، لا أحب النوافذ المغلقة".. بهذه الصورة الرمزية عن الحرية تنطلق الرواية، التي تعرف بنفسها في الصفحة الأخيرة، بأنها تدور في مجتمع القرية المنغلق، يبحث ميلاد الخباز - الولد الوحيد بين إخوته البنات - عن تعريف الرجولة المثالي، حسبما يراها مجتمعه، يفشل طوال مسار حياته في أن يكون رجلا بعد محاولات عديدة، فيقرر أن يكون نفسه وأن ينسى هذا التعريف بعد أن يتعرف على زوجته المستقبلية زينب، يعيش أيامه داخل البيت يطلع بأدوار خص المجتمع المرأة بها، فيما تعمل زوجته على إعالة البيت، يظل ميلاد مغيبا عن حقيقة سخرية مجتمعه منه، حتى يفشي له ابن عمه ما يحدث حوله. تعيد هذه الرواية مساءلة التصورات الجاهزة لمفهوم "الجندر" وتنتصر للفرد في وجه الأفكار الجماعية القاتلة.
في ستة فصول، وعبر 357 صفحة، يحاول النعاس صياغة تعريف للرجولة من قلب مجتمع القرية، الذي يحصر وظائف معينة للرجل وأخرى للمرأة، لتواجه الرواية - بما تحمله من قصص - تجربة إنسانية وتحديا للأفكار الجماعية في بيئة ما.
ما يصح وما لا يصح في هذا المجتمع المنغلق كان مما ناقشته الرواية، في أجواء يمكن أن نصفها بالسوداوية، يقدم لنا النعاس نقدا في قالب تصورات عن الأنوثة والرجولة، وتساؤلات حول قضايا الجندر، والقوالب النمطية التي تحصر كل واحد في إطار لا يتخطاه.
كتابة تحت القصف
صدرت الرواية الفائزة عن "دار رشم للنشر والتوزيع"، ويحصل محمد النعاس بموجبها على الجائزة النقدية البالغة قيمتها 50 ألف دولار، وضمان تمويل ترجمة روايته إلى اللغة الإنجليزية، إضافة إلى فرصة الترويج لروايته على المستوى العالمي وتحقيق زيادة في مبيعاتها.
ويعد النعاس قاصا وكاتبا لا يتجاوز عمره 32 عاما، يحمل درجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة طرابلس، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "دم أزرق" 2020، أما روايته "خبز على طاولة الخال ميلاد" فهي الأولى، كتبها في ستة أشهر أثناء فترة الحجر الصحي، عندما كان مقيما في مدينة طرابلس الليبية تحت القصف وأخبار الموت عن المرض والحرب، وكانت كتابة الرواية "حصنه من الدخول إلى مرحلة الجنون" على حد تعبيره.
في بيان للجنة الجائزة، بينت أن الرواية كتبت بإيقاع سردي سلس هادئ في ظاهر النص، هادر متوتر في باطنه، وصيغت بلغة عربية حديثة يسيرة المأخذ لكنها تخفي جهدا في البحث عن أساليب في القول مناسبة للعالم التخييلي، الذي بناه صاحب النص.
فيما صرحت إيمان حميدان الكاتبة اللبنانية عضو لجنة التحكيم خلال المؤتمر الصحافي بأن "الهوية الجندرية موضوع جديد في الرواية العربية، كما خلت من أي إسقاطات أيديولوجية، وهو ما ميز الرواية عن غيرها، ولا تقدم أي حلول، إنما تجعلنا نتساءل أمام أشياء بديهية".
تفتقد العمق
لقيت الرواية الفائزة نقدا من قراء، وجدوا في روايات مرشحة أخرى في القائمة القصيرة أنها أجدر بالفوز، ولا سيما أن الرواية تحمل ما سماه البعض تجاوزات ثقافية وعاطفية، وألفاظا غير لائقة، وتفتقد العمق المطلوب في رواية يفترض أنها تربعت على عرش الرواية العربية.
وقد تكون الموضوعات الشائكة التي تضمنتها الرواية سببا في حد ذاتها للهجوم عليها وانتقادها، فهي تناقش قضايا مهمة أيضا مثل النظرة الدونية للمرأة لدى البعض، التسلط المجتمعي، قمع المرأة، الخيانة، ومفهوم الجندر، وتحاكي الموروث الثقافي والتجارب الإنسانية والاجتماعية التي يمر بها أبناء قرية في ليبيا.
ومن إيجابيات التجربة، أن محمد النعاس يصافح العالم العربي برواية قد تكون أولى القراءات لكثيرين في الأدب الليبي، في سرد مشوق للخباز ميلاد عن عائلته، إخوته البنات، قريته، وتعريفه للرجولة مختلف عن بقية الناس، وما يخالط ذلك من أفعال عفا عليها الزمن، لكنها قد تكون مقبولة في قرى منعزلة ومنغلقة على نفسها، فيجد نفسه يدافع عن أفكاره في مواجهة تيار جارف.
نقيض الحب ليس الكراهية
للكاتب محمد النعاس أسلوب مميز في التعبير عما يجول في خاطره من خلال شخصيات الرواية، ففي مرة يقول "نقيض الحب مختلف تماما عن الكراهية، إنه اللامبالاة، التبلد، التباعد رغم العيش في مكان واحد، ألا تبتسم في وجه الآخر بعد أن كانت مجرد رؤيتك إياه تمكنك من الطيران، أن تنطق كلماتك اليومية (صباح الخير)، (نعم الغداء جاهز)، و(قهوة؟) خالية من الدفء".
ويعرج بنا النعاس على مجتمع تربى على أفكار معينة لا يخرج من عباءتها إلا بشق الأنفس، ومنها كما يقول "كان علي ذلك اليوم أن أستنتج القوانين التي اتفق مجتمعنا على وضعها، ومنها أن العفوية في الحديث عما يجول في بالك قد تشكل خطرا عليك وعلى من حولك، تعلمت الدرس الخطأ.. تعلمت أن أصمت".
رغيف الخبز يجسد مشاعره
أدخل الكاتب الليبي جزئية الخبز بطريقة ذكية إلى عنوان روايته، فمن علاقة ميلاد بالخبز يمكن أن نستنتج الكثير، فمزاجه مربوط بالخبز ارتباطا وثيقا، ولم يرتبط بأي شيء آخر في حياته كما فعل معه.
بخفة بهلوان، يتلاعب النعاس بالكلمات على لسان ميلاد، فيقول "إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي وجفافي، في رغيفي الذي يظهر بشكل تلك المشاعر. الرغيف السعيد مرح، الرغيف الكئيب كجثة قنفذ، الرغيف الخارج من سكينة يدي يخرج هادئا، يمتص الخبز مشاعري ويجسدها أمامي. كنت آكل رغيف الكآبة ناسيا إضافة الملح إليه، ورغيف الشك قاسيا وجلفا، تأثر اختياري الرغيف الذي أعمل عليه بمزاجي العام، كما تأثر عملي على الخبز بفصول السنة".