تنظيمها لموثوقية سوقها
شهدت الفترة الأخيرة في عديد من دول العالم تداول العملات المشفرة بجميع أنواعها، ودخل بعضها في معاملات تجارية لكن دون ضوابط مالية، وقانونية، ويبدو واضحا أن الاختلالات التي تصيب تلك العملات بين الحين والآخر، صارت تؤرق بصورة كبيرة المشرعين الماليين في العالم، ولا سيما في الدول المتقدمة.
ورغم كل التحذيرات من هذه الاختلالات وإمكانية فقدان المستثمرين في هذه العملات مدخراتهم في لمح البصر، إلا أن اللوائح التشريعية حيالها لا تزال غائبة من قبل البنوك المركزية، التي أعلن عدد منها مخططات مستقبلية لإصدار عملاتها الرقمية الخاصة، بما في ذلك مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي رفع مستوى الحديث عن إصدار الدولار الرقمي في مرحلة مقبلة.
المشكلة لا تتعلق بإطلاق عملات مشفرة مركزية، بقدر ما ترتبط بضرورة تنظيم هذا الميدان الذي يتوسع على مدار الساعة، مع مغريات لا تتوقف لأصحاب رؤوس الأموال لدخوله، بمن فيهم أولئك الذين لا يملكون إلا قليلا.
البنك المركزي الأوروبي كان من المؤسسات الأكثر تشكيكا في العملات الرقمية منذ البداية، ورئيسته كريستين لاجادر اتخذت موقفا متشددا في هذا الخصوص، حتى عندما كانت مديرة لصندوق النقد الدولي، بل دعت آنذاك البنوك المركزية إلى إطلاق عملاتها الرقمية، لجعل سوقها أكثر توازنا، وبالتأكيد أكثر أمنا للأموال التي تدخلها. لكن إجراءات الإصدار تأخرت كثيرا، ما دفع بعض البنوك المركزية الغربية إلى إعطاء ما هو موجود من عملات رقمية غطاء، أو بمعنى أدق، السماح بتداولها في حدود ضيقة. ويبقى الإجماع لدى المشرعين الماليين حول العالم موحدا حول مخاطر العملات المشفرة الحالية، التي أصيبت أخيرا بانهيار كبير وتسببت في خسائر للمستثمرين تقدر بمليارات الدولارات، فعلى سبيل المثال انخفضت قيمة العملة الأشهر "بيتكوين" إلى 30 ألف دولار قبل أيام، بعد أن سجلت 60 ألف دولار مطلع العام الجاري.
الأسباب متعددة وراء الانهيار الأخير، والانهيارات السابقة أيضا، منها بالطبع إقدام البنوك المركزية الرئيسة على رفع الفائدة لمحاصرة التضخم، وبعض القرارات السياسية التي تصدر في هذا البلد أو ذاك بما فيها الصين، إلى جانب طبعا التلاعب من قبل كبار المضاربين في البورصات.
وتكفي الإشارة إلى أن عملة "تيرا لونا" فقدت 99 في المائة من قيمتها، علما بأنه كان ينظر إلى هذه العملة خصوصا أنها مستقرة مقارنة بغيرها، فقد انخفضت من 118 دولارا الشهر الماضي إلى 0.09 دولار، وهذه تراجعات تعد مخيفة. ووفق الأرقام المتداولة، فإن إجمالي القيمة السوقية للعملات الرقمية مجتمعة تبلغ 1.2 تريليون دولار، أو ما يعادل ثلث قيمتها قبل ستة أشهر فقط، في حين خسرت بداية الشهر الجاري 35 في المائة من قيمتها في أسبوع واحد.
ولأن الأمر كذلك، فقد اكتسب كلام كريستين لاجارد أهمية كبيرة حين قالت "إن العملات المشفرة لا تساوي شيئا، ولا تستند إلى شيء، وليس هناك أصل يمكن أن يكون برا آمنا". وبالطبع استغلت الفرصة لتأكيد متانة اليورو الأوروبي الذي من المتوقع أن يظهر على الساحة بقوة في غضون أربعة أعوام. وتتفق جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية مع هذا الطرح، وكذلك الأمر من جهة مسؤولي البنوك المركزية في الدول المتقدمة.
لكن ذلك لا يمنع استمرار الاختلالات والأزمات والمخاطر في سوق العملات الرقمية في الوقت الراهن، خصوصا في ظل تنامي شريحة من المستثمرين فيها الذين يجهلون تقييم المخاطر، فالحاجة إلى تنظيم هذه العملات ووضع ضوابط قانونية لها تتماشى مع ما تتطلبه الأسواق، والخدمات المالية، وأصبحت ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، والتأخر في ذلك، سيحدث فوضى بعد أخرى في سوق مفتوحة.