بنوك الظل .. من هنا تأتي الأزمة المالية التالية
بينما يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، يحتدم الجدل حول ما إذا كانت دورة التشديد هذه ستطلق ركودا أم لا. يشير التاريخ إلى إجابة مثيرة للاهتمام، منذ الحرب العالمية الثانية، أدى تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى مجموعة من النتائج بالنسبة إلى الاقتصاد، سواء من الهبوط الصعب أو الهبوط الناعم، لكنه أدى دائما إلى أزمة مالية في مكان ما - بما في ذلك كل أزمة عالمية كبرى في العقود الأخيرة.
مع الانتشار السريع للإقراض المصرفي والرهن العقاري، في الأغلب ما تتجسد أولى علامات الأزمة في ارتفاع ديون الشركات والأسر، التي تكون مركزة في العقارات. اليوم، هذه المؤشرات بلغت مستويات مقلقة في عدد قليل فقط من الدول، في مقدمتها كندا وأستراليا ونيوزيلندا.
لكن هذا لا يوفر كثيرا من العزاء. فقد أدى التدفق المستمر للأموال السهلة من البنوك المركزية إلى تغذية الأزمات المتسلسلة لعقود. وتحاول الجهات التنظيمية عادة معالجة مصادر الأزمة الأخيرة، فقط لتحويل الائتمان إلى أهداف جديدة. فبعد الأزمة المالية العالمية في 2008 اتخذت السلطات إجراءات صارمة ضد المصادر الرئيسة لذلك الانهيار - البنوك الكبرى وقروض الرهن العقاري - التي جعلت الأموال السهلة تتدفق إلى القطاعات الأقل تنظيما، ولا سيما إقراض الشركات من قبل "بنوك الظل".
هذا المجال الخارج عن مجال الهيئات التنظيمية هو المكان الذي ستنشأ فيه الأزمة التالية.
تشمل بنوك الظل الدائنين من مختلف الأنواع، من صناديق التقاعد إلى شركات الأسهم الخاصة وغيرها من شركات إدارة الأصول. تدير هذه الجهات مجتمعة 63 تريليون دولار من الأصول المالية - ارتفاعا من 30 تريليون دولار قبل عقد من الزمن. ما بدأ في الولايات المتحدة انتشر في جميع أنحاء العالم، ونمت بنوك الظل أخيرا بشكل أسرع في أجزاء من أوروبا وآسيا.
على الرغم من تراجعه أخيرا تحت ضغط الحكومة، إلا أن قطاع مصرفية الظل في الصين لا يزال من بين أكبر القطاعات في العالم إذ يعادل 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعا من 4 في المائة في 2009. وهو متورط بشدة في الإقراض المحفوف بالمخاطر للحكومات المحلية وشركات العقارات والمقترضين الآخرين. ففي أوروبا، تشمل هذه البيئة غير الصديقة مراكز مالية مثل أيرلندا ولوكسمبورغ، حيث توسعت أصول بنوك الظل، خصوصا صناديق التقاعد وشركات التأمين، بوتيرة سنوية تراوح من 8 إلى 10 في المائة في الأعوام الأخيرة.
المقترضون الذين تنبغي مراقبتهم من كثب الآن هم الشركات. في الولايات المتحدة، لا تزال ديون الشركات كحصة من الأصول قريبة من المستويات القياسية، خصوصا بالنسبة إلى الشركات العاملة في الصناعات الأكثر تضررا من الجائحة، ومن ضمنها شركات الطيران والمطاعم. ولا يكسب ثلث الشركات المتداولة في الولايات المتحدة ما يكفي لتسديد فائدة القروض. وأي زيادة في تكاليف الاقتراض ستجعل الحياة صعبة بالنسبة إلى هذه الشركات التي تحتاج إلى ائتمان سهل للبقاء على قيد الحياة.
يعتمد كثير منها على الديون عالية التكلفة، التي تضاعفت خلال العقد الماضي لتصل إلى 1.5 تريليون دولار، أو ما يقارب 15 في المائة من إجمالي ديون الشركات الأمريكية. لقد تم الكشف عن ضعفها في وقت مبكر من الجائحة، عندما ارتفعت مخاطر التخلف عن السداد لفترة وجيزة، لكن سرعان ما تمت تغطيتها من خلال ضخ كميات هائلة من السيولة من الاحتياطي الفيدرالي.
إن أكبر فترات الازدهار تحدث في الأسواق الخاصة. فبعد 2008، عندما شددت الهيئات التنظيمية الخناق على أسواق الدين العام، لجأ عديد من المستثمرين إلى هذه القنوات الخاصة، التي تضاعف حجمها منذ ذلك الحين أربع مرات إلى نحو 1.2 تريليون دولار. وجزء كبير منه هو الإقراض المباشر من مستثمري القطاع الخاص إلى المقترضين من الشركات الخاصة التي في الأغلب ما تكون مقترضا خطرا، وكثير منها في هذه السوق على وجه التحديد لأنها غير منظمة.
لا شيء يؤكد البحث المحموم عن العائد في الأسواق الخاصة بشكل أوضح مما يسمى شركات تنمية الأعمال. يقوم بعض أكبر شركات إدارة الأصول في العالم بجمع المليارات من هذه الشركات، التي تعد بعوائد تراوح من 7 في المائة إلى 8 في المائة على القروض التي تمنح للشركات الصغيرة الهشة ماليا. كما أخبرني أحد المستثمرين: هز عصا في مانهاتن هذه الأيام وستضرب شخصا متورطا في الإقراض الخاص لا محالة.
هذه الأخطار هي من أعراض هيمنة المؤسسات المالية على الاقتصاد العالمي. يقول المتفائلون إن الأوضاع المالية للأسر سليمة لذا فإن الاقتصاد سيكون على ما يرام، حتى مع تأثير ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق. لكن هذا، مرة أخرى، هو ارتكاب خطأ التركيز على الماضي وتجاهل مقدار التغيير الذي حصل.
على مدى العقود الأربعة الماضية، مع نمو الأسواق المالية إلى أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد العالمي، تغيرت حلقات التغذية المرتدة. الأسواق التي كانت تعكس الاتجاهات الاقتصادية السائدة، أصبحت الآن كبيرة بما يكفي لدفع هذه الاتجاهات. بالتالي من المرجح أن تنشأ الأزمات المالية المقبلة في مناطق جديدة من الأسواق، حيث كان النمو متفجرا، ولم تصل الجهات التنظيمية بعد. الخطر الأكبر حتى، في عالم تهيمن عليه المؤسسات المالية بشكل كبير، هو أن حادثا في الأسواق يحسم الجدل حول مدى الضربة التي سيوجهها تشديد الاحتياطي الفيدرالي للاقتصاد الحقيقي.
*الكاتب رئيس مؤسسة روكفيلر إنترناشونال.