الأسهم الدفاعية .. الانتقاء والمخاطرة
أضحت شركات التكنولوجيا المحرك المهيمن في العقد الأخير للنمو الاقتصادي، كما أنها المتحكمة في أذواق المستهلك، وأيضا معظم الأسواق المالية. وفاقت قيمة أسهم الشركات التكنولوجية مجتمعة كل قيمة السوق خلال الأعوام العشرة الأخيرة، ذلك لأن التكنولوجيا أعيد استخدامها بطريقة تمكن الناس من التواصل وتبادل المعلومات والتسوق والعمل وإضفاء الطابع الاجتماعي أيضا.
وعلى نطاق واسع، تتشارك الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا في البحث والتطوير وتصنيع السلع والخدمات القائمة على التكنولوجيا. فهي تنشئ برامج، وتصمم وتصنع أجهزة الكمبيوتر، والأجهزة المحمولة، والأجهزة المنزلية. كما أنها تقدم منتجات وخدمات تتعلق بتكنولوجيا المعلومات.
وغالبا ما تم النظر إلى قطاع التكنولوجيا كقطاع واحد، لكن عمليا، فإنه مكون من قطاعات ضخمة من بينها قطاع أشباه الموصلات، والبرمجيات، والشبكات، والأجهزة، كما أن هذا القطاع يتميز بالمنافسة الشديدة والتقلبات الكبيرة نتيجة دورات التقادم السريع، فلا يكاد يمر عقد من الزمان إلا وانقلبت الحال في هذا القطاع رأسا على عقب، ليس مرة واحدة بل مرات، وفي ظل هذه التقلبات يصبح الخاسرون رابحين في آخره، والعكس، فلا أحد يحتفظ بمقعده التنافسي طويلا، ولعل أشهر الأمثلة في ذلك ما شهدته عملاق التكنولوجيا Apple التي وجدت نفسها في آخر المقاعد في التسعينيات لتقفز في العقد التالي إلى القمة مع منتجات الهواتف الذكية المبتكرة، وفي عام 1975 ظهرت "مايكروسوفت" مهيمنة على برامج أجهزة الكمبيوتر، لتجد نفسها خارج سباق الهواتف الذكية في العقد الماضي، لكن هذه التقلبات ليست فقط على مستوى الشركات بل حتى على مستوى القطاع ككل، فهو أيضا له تاريخ ديناميكي من التوسع والانكماش، فقد شهدت الفترة من عام 1990 إلى 2000 طفرة الإنترنت حتى سميت في أواخر القرن الـ20 بفقاعة شركات التكنولوجيا، وتشير الدراسات في تلك الفترة إلى أن العمالة في صناعات قطاع التكنولوجيا قفزت بنسبة كبيرة بلغت 36 في المائة وتضاعف متوسط الأجور حتي تجاوزت 100 في المائة في عام 2000، كما شكلت العمالة التقنية ما يزيد قليلا على 4 في المائة من إجمالي التوظيف في القطاع الخاص. لكن هذه الحال لم تستمر طويلا فقد انفجرت فقاعة شركات التكنولوجيا في عام 2000 وعانت الشركات في القطاع خسائر صافية كبيرة وانخفاضا في الوظائف لمدة استمرت طوال أربعة أعوام متتالية حتى إن شركة مثل أمازون كانت قد أعلنت تحقيق خسائر في حدود 900 مليون دولار، وأصبحت مهددة بالإفلاس، فيما بلغ التوظيف إلى أدنى مستوياته في عام 2004 بانخفاض تجاوز 17 في المائة، لكن القطاع عاد للنمو مرة أخرى مع نمو تقنيات الاتصالات المحمولة، لكن الأزمة المالية العالمية عام 2008، قد أودت بكل تلك الآمال، لكنه سرعان ما استعاد زخمه بعد عام 2010، وبدأ التوسع في الوظائف حتى بلغ عدد الوظائف في قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة 4.6 مليون وظيفة بحلول 2006، وهو ما يطابق مستواها في 2000، وتحسنت الأجور أيضا بنسبة تزيد على 5 في المائة تقريبا، وذلك في كل عام منذ 2010، واتسعت فجوة الأجور بين العاملين في قطاع التكنولوجيا والقطاعات الأخرى، حيث كان متوسط الأجور الأسبوعية في قطاع التكنولوجيا ضعف مستوى القطاع الخاص على الأقل في عام 2015، ووصل ارتفاع أجور قطاع التكنولوجيا إلى رقم قياسي بلغ 220 في المائة، كما ورد في عدد من الدراسات المتخصصة في هذا الشأن.
ومع نهاية العقد كان حجم قطاع التكنولوجيا ضخما بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ومضمون، حيث كان يضم شركات بقيمة تريليون دولار وعندما حل وباء كورونا زادت أهمية هذا القطاع على مستوى لم يسبق له نظير، وكان الجميع تقريبا مهووسا بالتحول الرقمي، حتى الأسر في منازلها تحولت إلى الشراء عبر الإنترنت، لكن مع بدء خروج العالم من الجائحة برز عديد من المشكلات في هذا القطاع لعل أبرزها تلك القضايا التي أثيرت ضد الشركات بشأن الاحتكار واستخدام بيانات العملاء، والشركات المنافسة، وعمليات الاستحواذ للقضاء على المنافسة، والاستحواذ على إيرادات الإعلانات التي يجب أن تذهب إلى منشئ المحتوى والناشرين الأصليين. ومع الحرب في أوكرانيا، ظهرت مشكلة سلاسل الإمدادات، وأخيرا رفع أسعار الفائدة وتقليص المشتريات، كل ذلك قاد انفجار الفقاعة.
إن الحديث اليوم عن عمليات بيع مماثلة لعام 2001 وطبقا لمحللين بأن ما يحدث حاليا من انهيار في أسهم التكنولوجيا يذكر بفقاعة الدوت كوم، مع انخفاض مؤشر ناسداك 3.8 في المائة في ظل أطول سلسلة خسائر لمؤشر التكنولوجيا منذ 21 عاما، فقد نشرت "الاقتصادية" تقريرا تضمن تراجع شركات بأكثر من 49 في المائة من قيمتها وخسرت شركة أفيرم أكثر من 75 في المائة، وهي واحدة من أكبر الشركات، فيما شهدت أبل وأمازون وألفابت وميتا خسائر مجتمعة بلغت نحو 2.1 تريليون دولار من رأسمالها السوقي، وتخلت شركة أبل عن عرشها كأكبر شركة في العالم من حيث القيمة لشركة أرامكو السعودية. لكن الموضوع أبعد من مجرد تراجع في أسعار الأسهم والمؤشر، فهناك عمليات تسريح للموظفين وصفت بأنها "هستيريا جماعية"، حيث استغنت شركة واحدة فقط عن 2500 موظف، فالمسألة أصبحت تتعلق بالثقة بشأن التدفقات النقدية المستقبلية وقدرتها على الوفاء بالمتطلبات الجديدة بعد رفع أسعار الفائدة، فالاندفاع السابق مع الفائدة المنخفضة أصبح غير مناسب حاليا، وما تواجهه شركات التكنولوجيا اليوم يتطلب إعادة هندسة للتكاليف من أجل تقليل الحرق النقدي، ذلك أن المقرضين بحاجة إلى استمرار تدفق نقدي، وهي ما يجعل الحاجة إلى توفير وزيادة النقد أولوية اليوم.
ومع الصعوبات الكامنة خلف إعادة هيكلة التكاليف لتناسب الحالة الجديدة الراهنة، فإن الوقت اليوم يمضي نحو ما وصف بأنه تخلص واسع النطاق وكامل من التكنولوجيا مع تحول نحو القطاعات القادرة على منح التدفقات النقدية، التي يراها البعض متركزا في القطاعات الدفاعية والطاقة والمرافق، وأن تتربع أرامكو على عرش أعلى شركة قيمة في العالم يعكس هذه الحقيقة، فالقطاع لا يزال يعد بالكثير، كما أن الحرب أيقظت مارد قطاعات شركة الأسلحة، ومع تطور مماثل في شركات القطاع اللوجستي، حيث حققته هذه الشركات اليوم مع ارتفاع أسعار الشحن إلى مستويات قياسية.