الناتو .. مزيد من الحضور على الحدود الروسية
تواصل رياح الحرب الأوكرانية جريانها نحو حرب تقترب من شهرها الرابع. تأتي واقعة توسيع حلف الناتو بطلب كل من فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ضد رغبة بوتين، الذي رسم لأهداف الحرب وقف زحف الناتو نحو دول يعدها ضمن نطاق الأمن الإقليمي الروسي.
تمثل هذه الخطوة قطيعة مع سياسة عدم الانحياز التي انتهجتها الدولتان على مدى عقود من الزمن، عززه انقلاب المزاج العام المرتبط بالخوف والقلق من المغامرة الروسية هذه المرة. عكس ما كان عليه واقع الحال مع حرب جورجيا "2008"، وكذا ضم جزيرة القرم "2014"، ما أدى إلى ترجيح - ولأول مرة - نسب تأييد الانضمام إلى الحلف داخل الدول، ولا سميا أن الذاكرة الجماعية في فنلندا لا تزال تحتفظ بوقائع "حرب الشتاء" التي غزا فيها السوفيات بلادهم، ما بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1939 وآذار (مارس) 1940.
هكذا سجلت استطلاعات الرأي بشأن الانضمام إلى الحلف، مباشرة بعد الحرب، قفزة كبرى داخل الدولتين، فقد أفادت هيئة الإذاعة والتلفزيون الفنلندية Yle بأن تغييرا تاريخيا حدث في صفوف الفنلنديين، بعدما بلغت نسبة التأييد 76 في المائة، مقابل 19 في المائة فقط 2017. ونجح الموضوع في نيل إجماع مختلف القوى السياسية، بما في ذلك حزب الخضر وحزب الفنلنديين المعارض اللذان توافقا لأول مرة على قضية معينة. وفي السويد، الدولة المشهود لها تاريخيا بـ"حياد الأحلاف"، ارتفع التأييد إلى 53 في المائة من السكان. وكانت المفاجأة التحول التاريخي للحزب "الاجتماعي الديمقراطي" الحاكم، من معسكر معارضي عضوية الناتو إلى المؤيدين لها.
متى تحقق انضمام فنلندا عمليا فستتقاسم روسيا حدودا مع الناتو تصل إلى 1300 كيلومتر، لتضاعف الحدود بذلك إلى أزيد من 2600، أخذا في الحسبان عضوية النرويج "1949" وإستونيا "2004"، وكذا لتوانيا "2004" وبولندا "1999" المحاذيتين لمقاطعة أوبلاست كالينينجراد، أحد الكيانات الفيدرالية التابعة لروسيا في عمق أوروبا. علاوة على تعزيز الانضمام إلى الحلف بصناعة عسكرية جد متطورة من جانب السويد. وقوة عسكرية لافتة من جانب فنلندا، صاحبة جيش احترافي قوامه 12 ألف جندي، فضلا عن 21 ألف مجند إضافي كل عام، وقوة لأوقات الحرب مكونة من 280 ألف جندي.
سارع حلف الناتو إلى الترحيب الحار بالقرار، كما حظي بالدعم والتأييد من قادة الدول الكبرى في الحلف، باعتبار خطوة "الانضمام ستعزز الأمن المشترك لأوروبا". وذهبت الحكومة البريطانية إلى التأكيد - على لسان ليز تراس وزيرة الخارجية - أنها "تتطلع إلى العمل مع الدولتين بوصفهما عضوين جديدين في الحلف الأطلسي، وهي مستعدة لأن تقدم إليهما مساعدتها الكاملة خلال عملية الانضمام". أكثر من ذلك، سارع بوريس جونسون رئيس الوزراء إلى زيارة الدولتين، فحلف الناتو أحد أهم أدوات القوة في يد المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
ضد ترحيب الأغلبية بالقرار، جاء موقف تركيا صاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف، ضد قرار التحاق الدولتين بالناتو. فقد وضعت أنقرة، وفق ما تداولته صحف تركية، قائمة تضم عشر مطالبات، قيل إن الدولتين مطالبتان بالاستجابة لها، حتى تتمكن تركيا من منحهما صوتها لقبول عضويتهما في الحلف، التي تتطلب موافقة الأعضاء الـ30 على انضمام أي عضو جديد. ارتبطت المطالب التركية بملاحقة التنظيمات "المعادية للوطن" في نظر الحكومة التركية، ويتعلق الأمر تحديدا بحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية وجماعة الخدمة التابعة لفتح الله غولن، ممن تصنفهم تركيا ضمن قائمة الإرهاب.
وفي التفاصيل - كما ترددت في وسائل إعلام تركيا - إن الدولتين مطالبتان بتسليم تركيا متهمين مطلوبين لدى أنقرة بتهم تتعلق بالإرهاب، ويتعلق الأمر بـ33 عضوا صدرت قرارات قضائية بحقهم. ويتوزعون بين 16 عضوا في جماعة الخدمة، و17 عضوا في حزب العمال. كما أن السويد وفنلندا مدعوتان إلى مراجعة علاقتهما بهذه الكيانات التي تحظى برعاية خاصة من جانبهما، ما أوجد وشائج في العلاقات التركية مع هاتين الدولتين خلال الأعوام الأخيرة. خاصة بعد إقدام السويد على استضافة ممثلين عن هذه التنظيمات داخل البرلمان السويدي، وإتاحتهم فرصة الحديث عن قضاياها.
موقف رأى فيه كثيرون - كان آخرهم جان أسيلبورن وزير خارجية لوكسمبورج - مقايضة سياسية من تركيا للحصول على مكاسب من الغرب. في المقابل، تعد الحكومة التركية أن بين يديها ورقة ذهبية، يمكن استغلالها بذكاء في هذا السياق الاستثنائي الذي تعيشه القارة العجوز. كما أنه طبيعي متى تمت قراءته في سياق المعارك المتواترة بين أنقرة وكبرى العواصم الأوروبية "برلين، باريس، أثينا" من ناحية، وفي ضوء العلاقات التركية الروسية التي تستحق وصف "العشق الممنوع"، فأنقرة حريصة غاية الحرص على الإمساك بالعصا من الوسط بشأنها، لذا تسعى جاهدة لإظهار موقف معارض أو ممانع ضد أي سياسة من شأنها تهديد المصالح الروسية، متى استطاعت إلى ذلك سبيلا.
تبقى المفاجأة الكبرى هي التحاق كرواتيا بتركيا في خانة الرافضين طلب الانضمام، فقد صرح الرئيس زوران ميلانوفيتش بأن بلاده ستعترض على العضوية ما لم يتم تبني قانون انتخابي جديد في البوسنة والهرسك، يسهل انتخاب ممثلين عن الكروات لمناصب قيادية في الدولة، مؤكدا أن "الكروات في البوسنة أهم بالنسبة إلي، من الحدود الروسية الفنلندية كاملة".
وضع الكرملين ضمن أهداف العملية العسكرية في أوكرانيا ثني الدول المحايدة عن أي محاولة للانضمام إلى الناتو، على الرغم من أن الحلف تهرب مطولا من تلبية طلب أوكرانيا للانضمام إليه، وكان مبرر المماطلة هو "عدم استفزاز روسيا". قبل أن تنعكس الآية، فتستفز موسكو الحلف ليسارع إلى قبول التحاق دول "السويد وفنلندا" كانت في تعايش معه لأعوام، فالدولتان كانتا دائما جزءا من برنامج الشراكة من أجل السلام التي يقودها الناتو، ما جعل مراقبين يعدون الانضمام بمنزلة "إعلان زواج". أكثر من ذلك تعهد أمين عام الحلف بزيادة حضوره في دول البلطيق وتقليص الفترة الانتقالية بين طلب الدول للعضوية وقبولها، ما يعني الإمعان في مخالفة رغبة موسكو في تسجيل مزيد من الحضور على الحدود "الإمبراطورية الروسية".