تقلبات الدولار ومؤشرات النمو
عند القراءة التحليلية العميقة لتأثير تقلبات سعر صرف الدولار في مؤشرات نمو الاقتصاد العالمي ومخاطره السلبية، فإنه من الضروري القول إن أكثر من ثلث الناتج الإجمالي للعالم يأتي من دول ثبتت سعر صرف عملتها بالدولار، وهناك دول اعتمدت الدولار عملة لها فعليا، وأكثر من 85 دولة تحافظ على عملاتها في نطاق تداول ضيق بالنسبة إلى الدولار.
وتشير بعض الدراسات إلى أن الدولار يشكل نحو 63 في المائة من حيازات البنوك المركزية من العملات الاحتياطية، وأن هذا الاتجاه القديم في إدارة الاحتياطيات لدى البنوك المركزية أفرز ما سمي بمعضلة تريفين Triffin dilemma، التي قدمها روبرت تريفين عالم الاقتصاد الأمريكي، في نقده لنظام برايتون وودز الذي كان يهيمن على آليات صرف العملات، حيث كان العالم الأمريكي يرى أن الحفاظ على دور الدولار كعملة احتياط يتطلب أن تستمر الولايات المتحدة في تسجيل عجز في ميزان المدفوعات "بمعنى أن تدفع للعالم أكثر من أن تأخذ منه"، ولو قررت الولايات المتحدة التوقف عن ذلك فإن المجتمع الدولي سيواجه أكبر مشكلة في الاحتياطيات النقدية، مع نقص السيولة، ما سيدفع بالاقتصاد العالمي إلى دوامة انكماشية وسلسلة من الاضطرابات وعدم الاستقرار.
ورغم أن معضلة تريفين أتت في سياق نقد ربط الدولار بالذهب، وهو ما انتهى إليه العالم في السبعينيات مع صدمة نيكسون عندما انهار النظام كاملا، ولم تعد الولايات المتحدة ملزمة بتحويل الذهب في مقابل الاحتياطي من الدولار، لكن معضلة تريفين لم تحل بعد، فأي تقلبات تصيب الدولار أو سعر الفائدة الأمريكية فإن على الدول الأخرى توقع تقلبات في اقتصادها المحلي، ذلك لأن الفائدة تلعب دورا في سحب الدولار من الأسواق العالمية أو العكس، فإذا رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة اتجهت الاحتياطيات الضخمة من الدولار عائدة إلى الولايات المتحدة، وهو ما يشبه تأثير معضلة تريفين تماما، أي خفض عجز المدفوعات، وبالتالي تنسحب الاستثمارات من الدول في باقي العالم، وتواجه الدول صعوبات جمة في توفير سيولة لمقابلة المدفوعات الأجنبية، والعكس صحيح أيضا.
وعلى صعيد آخر لم تتمكن أسعار الصرف المرنة وحركة رأس المال الحر من الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي، والدليل على ذلك ما قامت به الاقتصادات الناشئة من تكوين احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية لحماية نفسها من عمليات سحب رأس المال التي واجهتها خلال أزمة دول شرق آسيا في 1997 وخلال الأزمة المالية في 2008، وهذا الاتجاه أدى إلى زيادة الطلب على الأصول المالية الأمريكية، كما اتجه عدد كبير من اقتصادات الدول الناشئة إلى الاقتراض بكثافة بالدولار، لاغتنام فرصة أسعار الفائدة الأمريكية في أدنى مستوياتها، ما يرسم صورة النمو المدفوع بالائتمان، الذي يبدو هشا عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، وترتفع قيمة الدولار.
وهذا ما حدث فعلا، مع ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة لمستويات قياسية ارتفعت أسعار الفائدة وزادت معها قيمة الدولار بأكثر من 10 في المائة منذ بداية العام، وفقا لمقياس دي إكس واي، وأصبحت الدول تواجه معضلة تريفين بكل وضوح، كما أن توقف الولايات المتحدة عن شراء الأصول يعزز من مشكلة السيولة، وهذا بدوره يجعل الاستثمارات تتجه خارج هذه الدول للحاق بالفائدة في العالم، أينما زادت وارتفعت، فأي دولة تريد الاحتفاظ بالاحتياطيات من الدولارات والاستثمارات لديها لا بد أن تقوم برفع سعر الفائدة كلما ارتفع الدولار، ما يدفع الاقتصاد العالمي إلى تباطؤ متزامن من خلال زيادة تكاليف الاقتراض وإذكاء تقلبات الأسواق المالية، وفعليا فقد قامت كل من الهند وماليزيا برفع أسعار الفائدة بشكل مفاجئ هذا الشهر، ودخلت الهند السوق أيضا لدعم سعر الصرف. وتعليقا على ذلك قال رئيس اقتصادات آسيا والمحيط الهادئ في Scotiabank "إن الوتيرة السريعة لرفع أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي تسبب مشكلات لعديد من الاقتصادات الأخرى في العالم، ما أدى إلى تدفقات المحافظ الخارجية إلى الخارج وضعف العملة".
وهنا في حال مثل هذا الوضع فإن المخاطر على الدول النامية ستتزايد، خاصة مع ارتفاع أسعار الغذاء العالمي، وصعوبة توفيره نظرا إلى الحرب في أوكرانيا، وإيقاف التصدير من دول أخرى، مع تزايد القلق بشأن حجم المخزون من الغذاء، وقضايا أخرى تتعلق بسلاسل الإمداد، إضافة إلى استمرار الإغلاق في الصين نتيجة الأزمة الصحية، ما ينذر بمزيد من الأزمات في المستقبل المنظور.