أزمة رابعة .. الاحتمالات والتكلفة
لم يشهد العالم على مر التأريخ أن وصلت فاتورة الدين إلى أرقام قياسية مثلما يحدث حاليا، ما يهدد بآثار خطيرة على الاقتصاد العالمي، وينذر بانفجار قنبلة ديون موقوتة تعد الأكبر والأعلى في سجلات الديون، حيث وصلت نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي 348 في المائة، ما يعني أن العالم بحاجة إلى ثلاثة أضعاف إنتاجه حتى يتمكن من سداد هذا الدين.
الناتج الإجمالي العالمي بلغ حدود 94 تريليون دولار في 2021، بينما وصل الدين العالمي سقف 305 تريليونات دولار، وهذا يعني أن إنتاج العالم يذهب إلى سداد ديونه، وخدماته، وهذا إنذار خطير فيما لو حدثت جائحة أخرى كمثل التي واجهها العالم في 2020.
وقد أظهرت بيانات من معهد التمويل الدولي أن أكبر اقتصادين في العالم كانا أكبر المقترضين في الربع الأول من هذا العام، حيث زادت ديون الصين بنحو 2.5 تريليون دولار، وتبعتها الولايات المتحدة بزيادة قدرها 1.5 تريليون دولار.
كما أظهرت بيانات لصندوق النقد الدولي أن نسبة الدين العام وحدها بلغت 99 في المائة من الناتج الإجمالي، ويمثل الدين الحكومي وحده نحو 40 في المائة من إجمالي الدين العالمي، بينما يقبع القطاع الخاص والأسر تحت وطأة ما يقارب 180 تريليون دولار.
وفي وضع كهذا، فإن الأسر والشركات تصبح معرضة للمخاطر كلما تصاعدت نسب الدين، ذلك أن معظم الدخل سيذهب إلى سداد الدين الخاص وخدماته، أو نصيبه من الدين العام الذي تم دفعه من خلال الرسوم والضرائب، ما يعني في المجمل انخفاض قدرات الأسر والقطاع الخاص على تمويل الاستهلاك والاستثمار بصورة متزايدة، وهذا يقود إلى تراجع نسب النمو أمام الدين، وهو ما تثبته الأرقام.
وفي 2020، ارتفع الدين العالمي بمقدار 28 نقطة مئوية إلى 256 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، لكن الناتج كان قد تراجع فعليا إلى أقل من - 4 في المائة، فمع انكماش الطلب العالمي نظرا إلى الاحترازات التي اتبعتها الدول، تراجع النمو، وفي مقابل ذلك ارتفع الدين العالمي، كما أشرنا، فالحكومات كانت بحاجة إلى دعم اقتصادها لمواجهة الأزمة الصحية وانعكاساتها الاقتصادية، فالعلاقة واضحة بين معدلات الدين والنمو، وكلما صاحب ذلك أزمة من أي نوع ذات أبعاد اقتصادية، فإن الأثر الواضح لهذه الأزمات يأتي من خلال تراكم الديون.
ومع ارتفاع الأسعار حاليا بسبب موجات التضخم والمصحوبة بالركود، نظرا إلى مشكلات في سلال الإمداد، وأيضا نظرا إلى استمرار الجائحة في الصين وعدد من دول العالم، فإن احتمالات استمرار ارتفاع الدين العالمي بمعدلات قياسية هي المسار الوحيد الذي يمكن للعالم المضي فيه، لكن إلى أين؟
عديد من الدول في العالم بحاجة إلى الاقتراض من أجل تمويل مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الحيوية الأخرى في مجال التنمية، في مقابل ذلك يحذر خبراء البنك الدولي، وكذلك صندوق النقد الدولي، من المخاطر التي يمكن أن يشكلها تراكم الديون على قدرة الدول على إعادة البناء، ويحذر آخرون من التأثير الذي يمكن أن يحدثه ارتفاع مستويات الديون على الأجيال المقبلة، خاصة أن زيادة مستويات الديون وارتفاع عدم المساواة يسيران جنبا إلى جنب.
وإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة الشفافية حول حجم ما تقترضه الحكومات، والأسباب وراء ذلك، والجهات المقرضة، فمن الواضح جدا أن الجميع يدرك حجم المشكلة والخطر الكامن خلفها، لكن مع ذلك لا توجد حلول قابلة للتطبيق، ولا يوجد أيضا إجماع أممي على مشروع عالمي يمكن الاتكاء عليه كمرجعية.
وعلى هذا الصعيد، هناك حديث عن خيارات استثمارية مبتكرة للدول، والأسواق الصاعدة، وعن ضرورة تقديم دعم مالي لهذه الدول أكبر مما تنفقه على مدفوعات خدمة الدين وتطوير نماذج جديدة من القروض منخفضة التكلفة.
لكن في مقابل هذه الحلول المقترحة من مؤسسات معتبرة مثل البنك الدولي فإن مؤسسات الإقراض العالمية ليست جميعا ذات أهداف متقاربة، فجزء من الدين العالمي جاء من قبل القطاع الخاص الذي لا يرغب في الانخراط في مسائل من هذا القبيل.
والمعلوم أن أسعار الفائدة المنخفضة خلال الفترات الماضية كانت أحد الأسباب التي أدت إلى ارتفاع نسب الدين العام، فقد كان المستشارون في أنحاء العالم يوصون الدول والشركات باغتنام هذه الفرصة، واليوم عادت أسعار الفائدة إلى الارتفاع، لكن بوتيرة أسرع مما هو متوقع، نظرا إلى التضخم المتصاعد في العالم، وهو ما قد يزيد من تكلفة الدين العالمي بشقيه الخاص والعام، وستكون الآثار أكثر قسوة على الأسر منخفضة الدخل، وهنا حديث عن احتمالات لتكرار أزمة الديون العالية في ثمانينيات القرن الماضي عندما عجزت المكسيك عن سداد ديونها وأعلنت الإفلاس، وتبعتها أكثر من 26 دولة طالبت حينها بإعادة هيكلة الدين.
لذا، فإن الارتفاع الحاد في الديون قد يفجر أزمة ديون ستكون الرابعة خلال 50 عاما التي يعدها البنك الدولي نفسه الأكبر والأوسع، بما يجعل تداعياتها المتوقعة كبيرة جدا في حجمها.