في «العالم المكتوب» الأدب يصنع التاريخ
لنتخيل للحظة، كيف سيكون العالم بلا أدب؟ صورة قاسية تحدث عنها مارتن بوكنر في كتابه "العالم المكتوب.. تأثير القصص في تشكيل البشر والتاريخ والحضارات"، يكاد يستحيل علينا تخيل العالم لو أن الناس تناقلوا الحكايات شفهيا ولم يحفظوها بالتدوين قط، فلو أن هذا حدث لتغير فهمنا للتاريخ، وللأمم والإمبراطوريات التي سادت ثم بادت.
وفي رؤيته للواقع الافتراضي - إن حدث ذلك - لم نكن لنعرف معظم الأفكار الفلسفية والسياسية، لأن الكتابات التي نفثت فيها الحياة لم تحفظ بالتدوين، ولاندثرت أغلبية العقائد الدينية مع ضياع النصوص المقدسة التي تحوي تعاليمها، فقد كان لظهور الأدب منذ أربعة آلاف عام دور عظيم في تشكيل حياة معظم البشر على كوكب الأرض.
أهذا ما يفعله أدب الملاحم؟
يأخذنا كتاب "العالم المكتوب" إلى الفضاء، تحديدا إلى لقطة شروق الأرض التي صورتها مهمة "أبولو" عام 1968، وأصبح حينها رواد الفضاء الثلاثة شعراء في مشاهدتهم الأرض في منظر بديع، قال عنه بورمن قائد المهمة "أرى وجودا فسيحا موحشا، أو لعله امتداد للعدم"، وكأنه بوصفه هذا المتضمن الوجود والعدم كان يتسكع في ضفة السين الغربية، يقرأ جان بول سارتر، ولعل ذلك ليس بمستغرب على رواد فضاء رأوا صورة لم يرها أحد من قبل، وفي توصيفه للمشهد كان الدكتور فرنر فان بران، وهو العالم الذي بنى صاروخ المركبة، يردد دائما "إن عالم الفضاء ما هو إلا مهندس يعشق الشعر".
لم يكن إسهام "أبولو" في الأدب كبيرا، مثلما كان إسهام "الإلياذة" في حياة الإسكندر، جلبها من آسيا لأنه كان يرى أن في قصتها تتجسد حروبه وحياته، وكانت ملحمة هوميروس بمنزلة النص المقدس للإسكندر، كانت تصحبه في حملته العسكرية وفي غزواته حول أصقاع الأرض، وهذا ما تفعله النصوص، تغير نظرتنا نحو العالم وتملي أفعالنا فيه.
كان الإسكندر الأكبر معروفا بأنه ملك غير عادي، وقارئ غير عادي كذلك، قرأ "الإلياذة" وأعجب بها، علما بأنها لم تكن في منشئها أدبا مكتوبا، بل حكايات مروية تناقلها الناس في تقاليد خاصة بها، وكانت أحداث القصة تدور في العصر البرونزي، عام 1200 تقريبا، في عالم نشأ قبل نشوء الكتابة.
يحدثنا أيضا الكاتب عن سقوط "طروادة" نحو 1200 عام، إذ خاب أمله في موقعها التضاريسي وضآلة حجمها، فقد قطع سيرا في خمس دقائق ما كان يخاله مدينة هائلة وحصنا منيفا، لم يفهم كيف استطاع هذا الحصن الهزيل الصمود أمام الجيش اليوناني العرمرم زمنا طويلا؟ أهذا ما يفعله أدب الملاحم، يأخذ حصنا صغيرا فينسج حوله أساطير عظيمة؟.
قوة الكتابة
يروي الكاتب في تأريخه للأدب ورواية القصص، وتطور تقنيات الكتابة المبتكرة، مثل الحروف الأبجدية والورق والكتاب والطباعة، أن الكتابة نفسها اخترعها الإنسان مرتين على الأقل، المرة الأولى في بلاد الرافدين، والثانية في القارة الأمريكية، وكان الكهنة الهنود يأبون تدوين القصص المقدسة خشية فقدان سيطرتهم عليها، وكذلك فعل شعراء غرب إفريقيا الذين عاشوا بعدهم بألفي عام.
أما الكتبة المصريون فتقبلوا الكتابة، لكن حاولوا إبقاءها سرا، أملا في احتكار قوة الأدب لأنفسهم، ويقول الكاتب "إن البشر تقبلوا تقنيات الكتابة انتقائية، مثلما تقبل العلماء العرب الورق الصيني، لكنهم لم يهتموا باختراع صيني آخر وهو الطباعة".
تتبع مارتن بوكنر أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب في جامعة هارفارد خطى أدباء الرحلات، وسافر إلى المكتبات الحجرية في الصين، حيث حفظ الأباطرة للتاريخ إرثهم الأدبي، وغيرها من آثار العالم، لينقل تجربة قصة الأدب، وكيف حول الأرض إلى عالم مكتوب، عبر 16 فصلا.
أول تحفة أدبية في العالم
في كتابه الممتع، يقول مارتن بوكنر "إن الكتابة اخترعت في بلاد الرافدين قبل خمسة آلاف عام، لأغراض تسجيل العقود التجارية والمعاملات السياسية، وتروي إحدى القصص أن جلجامش ملك أوروك فكر في إرسال رسالة تهديد إلى ملك من خصومه، وأن تكون هذه الرسالة مضغوطة على الطين، ويحكى أن الملك الخصم لما تسلم تلك الرموز غير المفهومة التي اختزلت كلمات نطقها ملك أوروك، بايعه من شدة انبهاره بتلك الطريقة العجيبة التي أنطق بها الطين".
وينتقل بنا الكتاب من ملحمة جلجامش، النص الأثري المحفور على 12 لوحا طينيا، وأول تحفة أدبية في العالم، وصولا إلى "بوذا" وأتباعه، الذين لم يلجأوا إلى الكتابة إلا بعد قرون، فأخرجوا نصوصا اختزنت في كلماتها حياة "بوذا" بقدر المستطاع وبأقرب الدرجات إلى الحقيقة، وتظهر "بوذا" في حوار مع طلابه أو غرمائه، يوضح قواعد السلوك ومشاهداته عن العالم، وكل السير التي نعرفها اليوم عن حياته مستندة إلى نصوص كتبت بعد مئات الأعوام من وفاته، ثم بادر الشعراء في تخيل حياة "بوذا"، وكانت شخصيته وتأثيره في مستمعيه، وكل أقواله وأفعاله منتجات ونوعا جديدا من الأدب، أدب المعلمين، الذي يحفظ نفوذ معلم ذي تأثير وحضور، مات منذ عصور، لكن سيرته وتعاليمه عاشتا إلى الأبد.
أما كونفوشيوس، فعاش في إحدى أعظم الثقافات تعلما في العالم، في الصين، لكنه لم يلجأ إلى الكتابة، ومات دون أن يكتب شيئا من تعاليمه، لكن بعيد وفاته، بدأ الطلاب يكتبون كلماته ويسجلون حوارات ومشاهد من تعليمه بالأسئلة والأجوبة، فخرجت ما تسمى الكونفوشية.
ألف ليلة وليلة
في كتاب "العالم المكتوب"، الصادر حديثا عن دار "أثر"، من ترجمة نوف الميموني، يذكر أن المجموعة القصصية "ألف ليلة وليلة" حينما ترجمت إلى الفرنسية حققت نجاحا منقطع النظير، حتى إن الناس كانوا يتجمهرون حول مترجمها أنطوان جالان في الطرقات ليسألوه متى سيصدر المجلد الثاني؟ ولم يكن يسعه أن يترجم بسرعة ترضيهم. لم تأسر تلك الحكايات بحبكاتها الخيالية قلوب الجميع، لكن شعبيتها جعلت من الصعب إيقافها، ثم وقع ما لم يكن في الحسبان، انتهت القصص التي في حوزة جالان، ففكر في ساعة عسرته عام 1709 في بطلته شهرزاد، وقرر أن عليه إيجاد مزيد من القصص، وبدلا من المرأة الفارسية وجد شابا سوريا اسمه حنا دياب، وكان حكواتيا محترفا، فنسج له دياب قصة وراء قصة، بجمع أجزاء مختلفة من قصص متفرقة بكل إبداع.
ومن رحم هذا الإبداع خرجت قصص شهيرة، منها "علاء الدين" و"علي بابا"، التي لا يعرف لها أصل عربي ولا عثماني، على حد تعبيره.
ويعود بنا المؤلف إلى عنوان الكتاب، ويقول "إن الأدب لم يولد إلا عندما تقاطعت رواية القصص مع الكتابة، ففي السابق كانت رواية القصص منحصرة في الثقافات الشفهية، ولها قواعد وأغراض مختلفة، لكن عندما ارتبطت رواية القصص بالكتابة بزغ الأدب مشكلا قوة جديدة".
ويرى أن أعظم ثمرة نتجت عن اختراع الكتابة هي إخبار القراء بأحداث الماضي، وتداول القصص على ألسنة الرواة يكفيها للجماهير والمستمعين الجدد، ويحييها في الحاضر، لكن حفظ الماضي بالكتابة يخلده.. الكتابة هي التي تصنع التاريخ، ويضيف في موضع آخر أن "أهم درس تعلمناه من تاريخ الأدب هو أن الضمان الوحيد لنجاة النصوص استعمالها المستمر، فالنص يحتاج إلى أن يكون مرتبطا بثقافة الناس، بترجمته وتدوينه وبقراءته من جيل إلى جيل، كي لا يتخبط في محيط النسيان. إن التعليم والثقافة هما ما يضمنان مستقبل الآداب، وليس تطور التقنيات".