شعراء بعد دواوينهم الأولى .. حينما تبرأ النخل من تمرها
البدايات الشعرية ليست ككل البدايات، فهي تسجيل لمرحلة عمرية مهمة في حياة الشاعر، يشبهها مبدعون بفرحة المولود الأول، إذ تلعب دورا في تشكيل مسيرة الشاعر، وتوثق تفتق موهبته ونجوميته.
كثير من الشعراء أخفوا قصائدهم وأتلفوا دواوينهم الأولى، من بينهم علي الدميني الشاعر السعودي الراحل، الذي قال بالحرف الواحد "كان لزاما علي إلغاء نشر ديواني الأول في 1974، وإخفاء قصائده، لأن أصوات درويش ونزار كانت تترصدني في مقاطعه".
ما أروعه كاذبا وصادقا
يصدمنا أنيس منصور برؤيته للشعر والشعراء، لكنها رؤية منطقية وواقعية، ذكرها في كتابه "عاشوا في حياتي"، حينما كتب أن "الشعر ترجمة ذاتية، كتبها عاشق لنفسه، يريدنا أن نصدقه، لكننا لا نصدقه، لكن عندما نصدقه أو لا نفعل ذلك فإننا نصفق له، فما أجمله كاذبا وما أروعه صادقا، وليس من الأدب ولا من الفن ولا من الشعر أن نقول له، قف من أنت".
بعد أعوام وعقود من تجربته الشعرية الأولى، يقف الشاعر عادة موقف المبدع الحائر، بعد أن صقل موهبته ونضجت، ولا يشعر بتمام الرضا عن ديوانه الأول، بحسب ما كشفت دراسة حديثة.
ففي بحث نشر أخيرا في مجلة كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، بعنوان "موقف الشاعر من ديوانه الأول، دراسة تحليلية"، للدكتور وليد بن خالد الحازمي، الأستاذ المساعد في قسم الأدب والبلاغة في كلية اللغة العربية "الأدب الحديث" - الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، يتناول الباحث في دراسته التحليلية موقف الشاعر من ديوانه الأول، ورصد ما استجد من تحولات في موقف المبدع تجاه إبداعه الفني، فبعض الشعراء أعاد نشر ديوانه الأول ضمن أعماله الشعرية، في حين إن البعض الآخر اتخذ موقف النقيض حين تبرأ من ديوانه الأول.
فقد تبرأ محمود درويش من مجموعته الشعرية الأولى، ووصل الأمر بالشاعرة اللبنانية سوزان عليوان إلى إحراق دواوينها الثلاثة الأولى، وبررت ذلك بقولها "إن إحراق دواويني جاء في لحظة يأس من الكتابة، من كتاباتي تحديدا، لقد نشرت هذه الأعمال في سن مبكرة، وبالتالي حين تجاوزها وعيي أحسست بعدم الرضا عنها فنيا".
الاعتزاز بالتجربة الأولى
يقيس البحث مدى اعتزاز الشاعر بديوانه الأول، وعرض لبعض الأسباب والعوامل المؤثرة في موقف الشاعر تجاه ديوانه الأول، مثل المستوى الفني للديوان، ومحور الطباعة والنشر، ورؤية الشاعر تجاه مواقف الشعراء من ديوانه الأول. ويسعى الدكتور الحازمي إلى استشكاف تجربة الديوان الأول بشتى عواملها ومؤثراتها.
وتوجه الباحث باستبانة إلى 38 من الشعراء المعاصرين، 70 في المائة منهم سعوديون، ويعود أقدم الدواوين للشعراء المشاركين إلى 1979، وقد نشر جميع الشعراء المستجيبين ديوانهم الشعري الأخير في 2017 وما بعده، في دلالة على استمرارية عينة الشعراء وعدم توقفهم عن نظم الشعر، وامتداد تجربتهم الشعرية، فيما بلغ مجموع الدواوين الشعرية لعينة الشعراء نحو 142 ديوانا.
وأظهرت الأرقام أن نحو 39 في المائة لا يوافقون على احتمالية إهدائهم ديوانهم الأول إلى الآخرين، لكن الأغلبية "معدل 4.08" أفادوا بأن نشر الديوان الأول كان بدافع الوصول إلى جمهور القراء والمتلقين والتعريف بالشاعر، وفي المحصلة بلغت نسبة اعتزاز الشعراء بتجربتهم الأولى مستوى مرتفعا.
وبلغت موافقة الشعراء على عبارة "ديواني الأول ناضج فنيا" معدل 3.26، وهي نتيجة متوسطة التقدير، تدل على تطور فني في تجارب الشعراء مع دواوينهم اللاحقة، و56 في المائة اختاروا الحياد وامتناعهم عن تقديم حكمهم النقدي تجاه المستوى العام لنضج الديوان، باعتباره متروكا للنقاد والمتلقين.
وفي الوقت الذي وافق فيه 74 في المائة من العينة على عبارة "عنوان ديواني الأول كان موفقا"، وافق 65 في المائة أيضا على عبارة "تدني مستوى الديوان الأول عن لاحقيه أمر طبيعي حتى وإن خلا من الهنات"، فيما أجاب 22 في المائة بأن دواوينهم الأولى اشتملت على مواضيع غير مناسبة حاليا، وقد يكون ذلك لتسارع الأحداث والمتغيرات واندفاع الشاعر للتعبير عن موضوعات انقيادا لعاطفة وقتية، إضافة إلى التحولات الفكرية والاجتماعية والثقافية والنفسية المؤثرة في شخصيته ومحيطه.
التبرؤ من الديوان
للشعراء مواقف متباينة من دواوينهم الأولى، فالشاعر المحبوب جاسم الصحيح قال في مقابلة صحافية سابقة "أعتقد أن دواويني الأربعة الأولى كان يمكن اختزالها في ديوان واحد، لأنها تحمل قصائد رومانسية متشابهة في مشاعرها وشعائرها أيضا".
وبدوره أفصح الشاعر شريف بقنة في الإطار ذاته "أعد ديواني الأول تجربة أولى غير ناضجة من ناحية المضمون، فقد كان كتابا للاكتئاب، وجحيما مظلما، كان كتابا وحشيا بكل المقاييس".
نضج التجربة كان جليا في إجابات الشعراء، فعبر نحو 62 في المائة عن رغبتهم في إجراء تعديلات على الديوان الأول قبل نشره منفردا، ويدل ذلك على استفادتهم من نقد القراء أو النقاد، أو حتى النقد الذاتي، وكانت النسبة مرتفعة، رفضا لحالة التبرؤ من الديوان الأول.
من أبرز الشعراء الذين تبرأوا من دواوينهم محمود درويش، وعلي الدميني، وسوزان عليوان، لضعف مستواها الفني مقارنة بالتطور الحالي لتجاربهم ونضجها، وانقياد الشاعر إلى تقليد معاني الشعراء الآخرين، وتأثره بمعجمهم اللفظي، ما يحيله صورة منعكسة لنتاجهم، الأمر الذي يدركه الشاعر بعد نضج تجربته، فيتخذ منها موقف المتبرئ.
الاعتزاز بالتجربة الأولى كان علامة مميزة لدراسة الدكتور وليد الحازمي، بلغ نحو 73 في المائة، دون أن يخفوا رغبتهم في إجراء التعديلات إن سمح الزمن والتقنية لهم بذلك، حيث وافق 44 في المائة من العينة على وجود أخطاء فنية لا يشعرون بالرضا عنها في دواوينهم الأولى.
قصائد البدايات متأخرا
ليست التجارب الأولى كلها غير ناضجة، بل إن كثيرا منها يعبر عن أسلوب سهل وبسيط بمستوى فني مميز، مثل قصيدة غازي القصيبي، الوزير والشاعر، الذي نشر قصائد "البدايات متأخرا"، بعد أن نشر نحو 20 ديوانا شعريا، وكتب القصيبي في مقدمة ديوان "البراعم" كاشفا الحقيقة، "كتبت هذه القصائد بين سني الـ16 والـ19، ولسبب أو لآخر لم أضمنها أيا من مجموعاتي الشعرية السابقة، وأنشرها اليوم، بأمل أن تحظى باهتمام بعض القراء، أو تفتح شهية بعض الباحثين".
وعودة إلى الدراسة، خرجت الدراسة التحليلية بتوصيتين، الأولى دعت إلى إنشاء مرصد نقدي يعنى برصد الدواوين الشعرية الصادرة كل عام داخل المملكة، ورصد عدد الدواوين الأولى منها، بما يسهم في توجيه الحركة النقدية إلى تقييم تجربة الديوان الأول وتقويمها، والثانية أوصت بتفعيل دور الأندية والجمعيات الأدبية ذات العلاقة بتبني طباعة ونشر سلسلة إصدارات تختص بالديوان الأول، وتقديم التوجيه والإرشاد عند طباعته.