كيمياء الآثار
يعشق كثير من البشر المتاحف وما تحويه من آثار، يتنقل بين جنباتها كأن العالم يجره للخلف يتخيل نفسه وقد ركب عجلة الزمن وعاد للوراء آلاف الأعوام، محاولا معرفة وتصور كيف عاش الأسلاف وكيف كانت الحياة قبلنا وما الذي حمله الماضي لنا؟ ولعل من أكثر الأمور إيلاما بعد إبادة البشر في الحروب هو القضاء على متاحف وآثار الدول المنكوبة مثل ما حدث في العراق وأفغانستان ومصر وسورية إبان الحروب والثورات.
يعتقد البعض أنها مجرد أحجار وهياكل عظمية لا جدوى من وراء تجميعها والعناية بها ويجهل أن بقعة زيت على سطح إناء فخاري قد تمنحك كمية من المعلومات لا حصر لها، فقد وجدوا أن بقايا الدسم سواء على سطح أواني الفخار أو الذي امتصته جزيئاتها قبل آلاف الأعوام مكنتنا من معرفة نوع الأطعمة وكمية المواد الغذائية بها ونسبة كل مادة للأخرى باستخدام مزيج من تقنيات الكيمياء التحليلية الحديثة ومنها الكروماتوجرافيا السائلة والغازية، وذلك من خلال المركبات الكيميائية المكونة لهذا الدسم ونواتج التحلل المصاحبة له ومعرفة هل كان الطعام منتجا حيوانيا مثل الألبان والأجبان واللحوم أو مكونا من الخضراوات الورقية، وكذلك معرفة كثير عن الحمية الغذائية لأسلافنا ووضعهم المادي وتجارتهم، أما الهياكل العظمية تلك القطع الأثرية المهمة والغنية بالمعلومات سواء الموجودة في القبور أو المحفوظة بالتجميد أو التحنيط، فمسامها تجتذب الجزيئات المحيطة بالجثة وتحتفظ بها ليأتي علماء الكيمياء ويستخلصونها من مكامنها ويحللونها بأحدث التقنيات، فتمنحنا معلومات عن النظام الغذائي المتبع في تلك الحقبة، وهل اعتمدوا في غذائهم على الحيوانات البرية أم البحرية؟.
أما الرواسب والتربة القديمة فتحليلها يمنحنا فكرة عن الأنشطة الزراعية وطريقة التسميد حتى عن كيفية تخلصهم من مياه الصرف الصحي، وتكشف طقوس وشعائر دفن الموتى في تلك الأزمنة.
فتحليل نوع صبغة مترسبة على رفاة بشرية في إحدى المقابر الأثرية أسفر عن معرفة الصناعات النسيجية في تلك الحقبة، إنها ليست مجرد حفنة من التراب أو بقايا عظام أو أوان محطمة، بل كنزا من الأسرار والمعرفة.
ومن خلال كيمياء الآثار أمكن معرفة أسرار التحنيط لدى الفراعة ومكونات المواد الداخلة في تصنيعه مثل الدهون رخيصة الثمن والمرة لتحسين الرائحة والقضاء على الميكروبات التي تؤدي إلى تحلل الجثة وتغيير قوامها. إن ما يحدث هناك في المواقع الأثرية شبيه بما يفعله الكيميائي أو إخصائي الأدلة الجنائية في مسرح الجريمة حيث لكل تفصيلة من تفاصيل مسرح الجريمة دلالة على ما حدث هناك قبل دقائق أو سويعات وأيام، أما المواقع الأثرية فتمنحك حكاية الأعوام.