رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الفائدة .. هل يستفيد المستهلك؟

انتظر العالم بقلق صدور قرار الاحتياطي الفيدرالي لرفع نسبة الفائدة، خاصة الجهات ذات التأثر بتداعيات القرار، الذي يعد الأكثر أهمية في مسار مؤشرات أسواق المال والاقتصادات الوطنية. ومن أول ملامح هذا القرار أن الزيادة الأخيرة جاءت أكثر قليلا مما كان متوقعا، حيث قرر الاحتياطي الفيدرالي رفع النسبة ما بين 0.75 و1 في المائة، وبعد زيادة ربع نقطة مئوية في آذار (مارس).
مناقشات "الفيدرالي" كانت تنحصر في الحديث عن ربع نقطة فقط على أن تتم الزيادة مرة أخرى كلما كان ذلك مناسبا، فالهدف الأساس من رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، السيطرة على التضخم المرتفع، فهناك مخاوف من أن يتجاوز حدود 8 في المائة، ما يتسبب في ضغوط على المستهلكين، ذلك أن ارتفاع الأسعار يأتي مباشرة للطلب القوي جدا بعد الخروج من أزمة كورونا، فالطلب المكبوت لفترة تسبب في زيادة مدخرات الأسر، وهذه الأخيرة تقود موجة ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة. صحيح أنه ليس بالضرورة أن يكون كل تضخم سببه الطلب القوي، بل قد تكون السياسات الاقتصادية الخاطئة العلة والمعضلة الكبيرة، فبعض الدول تعاني تدهورا حادا في سعر الصرف، ما يتسبب في ارتفاع أسعار المواد الخام والمستوردة الذي يرفع فاتورة الاستهلاك عند الأسر. وفي هذه الدول يأتي الحل من خلال رفع سعر الفائدة، لكن ليس بالضرورة أن يكون حلا مثاليا، بل قد يقود إلى رفع الأسعار بدلا من تخفيضها، لأن أسباب التضخم ليست في زخم النشاط الاقتصادي وقوة الطلب، بل كامنة في ارتفاع التكلفة، ورفع سعر الفائدة يزيد تكلفة رأس المال، ما يسهم في رفع الأسعار.
الواقع في السوق الأمريكية أن الأمر مختلف، فالمشكلة واضحة في الطلب القوي، حيث أظهر مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي PCES - الذي يعتمده الاحتياطي الفيدرالي معيارا - ارتفاعا في الأسعار 6.6 في المائة، في آذار (مارس) بمعدل سنوي، ويشير مصطلح مؤشر سعر نفقات الاستهلاك الشخصي PCES price index الذي يتم إصداره شهريا من مكتب التحليل الاقتصادي BEA في تقرير الدخل والمصروفات الشخصية إلى التغيرات في أسعار السلع والخدمات المشتراة من قبل المستهلكين في الولايات المتحدة، ويتضمن مقاييس عدة لتتبع تغيرات الأسعار في السلع الاستهلاكية والخدمات المتبادلة في الاقتصاد الأمريكي، وأصبح هذا مؤشر التضخم الأساسي الذي يستخدمه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عند اتخاذ قرارات السياسة النقدية، وهو يختلف قليلا عن مؤشر أسعار المستهلك CPI الذي يركز على الأسعار، وأظهر أن التضخم بلغ 8.5 في المائة، وهي أعلى زيادة منذ كانون الأول (ديسمبر) 1981.
إنها المرة الثانية التي يرفع فيها "الفيدرالي" سعر الفائدة بعد زيادة ربع نقطة مئوية في آذار (مارس)، حيث يؤكد البنك الأمريكي أن مخاطر التضخم ما زالت مرتفعة، وهذه المخاطر تأتي من مخاوف الدخول في دوامة الأسعار والأجور، فالأسعار المرتفعة تقود إلى طلبات برفع الأجور ما يقود إلى زيادة الطلب مرة أخرى ومن ثم زيادة الأسعار وطلبات بزيادة الأجور، فالتضخم يغذي نفسه باستمرار وتصبح الحلول شبه معدومة، لذلك فالحل يبدأ من خلال كبح النشاط الاقتصادي وتقليل الطلب المرتفع والخارج عن السيطرة بتعزيز نزعة الادخار، ورفع تكلفة القروض الشخصية والبطاقات الائتمانية، وتعزيز الاستثمار المؤسسي، وهنا تصبح سندات الحكومة الأمريكية الخيار الأفضل للمؤسسات بدلا من الإقراض، وهذا ما حدث فعلا مع رفع أسعار الفائدة، حتى الآن على الأقل، حيث قفزت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عامين إلى أعلى مستوى منذ ثلاثة أعوام. وصعد العائد على سندات الخزانة لأجل عامين، ويعد الأكثر حساسية لأسعار الفائدة الأمريكية، أكثر من 200 نقطة أساس، إلى 2.844 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، وهذا الاتجاه في العوائد يعزز الدافعية إلى الاستثمار بدلا من الاقتراض أو الإقراض، وهو ما يعالج في نهاية المطاف - كما أشرنا - اختلالات الطلب المرتبطة بالجائحة، رغم احتمالية بقاء الأسعار مرتفعة نوعا ما، بما يعكس ارتفاع أسعار الطاقة والمشكلات اللوجستية الناتجة عن ضغوط حرب أوكرانيا والإغلاق في الصين.
من الواضح أن رفع أسعار الفائدة الأمريكية يهدف أساسا إلى دعم المستهلكين بمعالجة ارتفاع الأسعار الناتجة عن تزايد الطلب، لكنه ارتفاع حذر وتحت المراقبة، فالهدف هو المحافظة على زخم النشاط الاقتصادي والتفاؤل العام بعد الخروج من الأزمة الصحية، وليس كبح النشاط، حيث يعود التضخم إلى مستواه المستهدف البالغ 2 في المائة مع بقاء سوق العمل قوية، ولتحقيق هذا فإن القراءة الجيدة للاقتصاد تعد القوة الأساسية التي يمتلكها "الفيدرالي" في مقابل تضخم الأسعار، فالبنك واثق من الأسباب الكامنة خلف الارتفاع، ولهذا يستخدم أدوات مختلفة، من بينها أسعار الفائدة، كما خفض حيازته للأصول البالغة قيمتها نحو تسعة تريليونات دولار، ما يدفع إلى تخفيض مستوى المعروض النقدي لدى مؤسسات التمويل المختلفة. كما أن الحكومة ستبدأ بتقليص الميزانية العمومية في أول يونيو بخفض قدره 47.5 مليار دولار شهريا، ويرتفع إلى 95 مليار دولار شهريا بعد ثلاثة أشهر. فالتكامل بين هذه الأدوات يمنح صناع السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة ضبط كل صنابير التدفقات النقدية للأسر، دون كبح النشاط العام والتسبب في ركود أو اختلال في سوق العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي