هل تعطل الضرائب المرتفعة تحول لندن إلى مركز عالمي للعملات المشفرة؟
كان إعلان ريشي سوناك وزير المالية البريطاني بجعل المملكة المتحدة "مركزا عالميا لتكنولوجيا الأصول المشفرة"، بمنزلة إدراك لحقيقة أن العملات الرقمية باتت أصولا ذات ثقل اقتصادي كبير، خاصة أن أسواقها آخذة في التزايد والاتساع والنمو.
هذا الإعلان يعني ببساطة أن العالم ربما يكون في إنتظار إجراءات وتدابير لتكون بريطانيا مكانا جذابا لشركات العملات المشفرة للعمل فيها.
بالنسبة إلى المستثمرين والمؤسسات المالية أصبحت الأصول الرقمية من القطاعات الاقتصادية الجذابة ، لكن إذا أرادت بريطانيا أن تخرج من إطار التمنيات إلى إطار الإنجازات، لزيادة مشاركتها في هذا القطاع وإعطائه دفعه للمساهمة في اقتصاد المملكة المتحدة، فإن الأمر سيتطلب توازنا تنظيميا دقيقا يسمح بحماية مصالح المستهلكين والمستثمرين، وفي الوقت ذاته منع الجرائم المالية الموجودة في هذا القطاع، التي يمكن أن تؤثر في معدلات نموه بشكل سلبي.
وأثار الإعلان البريطاني تساؤلات عدة عن أسباب التغير في "الموقف الرسمي" من العملات المشفرة وآفاق الاستثمار فيها، وقدرة بريطانيا الفعلية على التحول إلى مركز عالمي في هذا القطاع، خاصة أن عديدا من البنوك المركزية حول العالم بما فيها بنك إنجلترا وكثير من الخبراء والاقتصاديين في المملكة المتحدة غير متأكدين بعد من الدور الذي يمكن أن تلعبه أو الذي يجب أن تلعبه الأصول المشفرة في مالية الدولة.
يرى ماثيو دين المحلل المالي السابق في بنك إنجلترا أن تصريحات وزير المالية ليست أكثر من محاولة أولية لتلمس المياه ومعرفة مدى تفاعل الأسواق مع رؤيته.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأمر لا يزال في إطار المقترحات والوعود، وقد طرح ريشي سوناك أفكاره بشأن إزالة الحواجز الضريبية المرتفعة، وإمكانية تطوير رمز غير قابل للاستبدال مع دار سك العملة الملكية، وتلك خطوات أولية مهمة تبعث برسائل إيجابية إلى أسواق الأصول الرقمية".
لكن ماثيو دين يرى أنه يجب فهم أن وزارة المالية البريطانية لا تتحدث عن أسواق العملات المشفرة في المجمل، إنما تسعى في المرحلة الراهنة إلى إدخال أحد عناصر العملات المشفرة وليس جميع العملات المشفرة في نطاق التنظيم المصرفي الحالي في المملكة المتحدة، فوزير المالية يتحدث عن "العملات المستقرة" وهي على نطاق واسع الطرف الأكثر أمانا وأمنا في هذا المجال، لكنها في الوقت ذاته لا تمثل جوهر سوق العملات المشفرة.
ويضيف "ريشي سوناك يريد بإدخال العملات المستقرة تفاديا للتقلبات السيئة الصيت في سوق العملات المشفرة عبر استخدام العملات المستقرة الموثوق بها نسبيا".
مراهنة الجانب البريطاني على العملات المستقرة ينبع من كونها شكلا من أشكال الأصول المشفرة المرتبطة بأصل احتياطي مثل عملة ورقية أو سلعة "الذهب غالبا" أو حتى عملة مشفرة أخرى، والاقتراح الحالي من قبل الحكومة البريطانية بسن تشريعات لاستخدام العملات المستقرة كوسيلة للدفع ضمن الإطار التنظيمي المالي الذي تشرف عليه هيئة السلوك المالي، يعد خطوة أولية لكنها جيدة في تلك المرحلة، حيث لا يبدو الأمر وكأن كبار المسؤولين الماليين في البلاد على قلب رجل واحد تجاه تحول بريطانيا إلى مركز عالمي لصناعة العملات المشفرة.
في هذا السياق، تعلق لـ"الاقتصادية" الدكتورة إيمي فيرجسون أستاذة النظم المالية في جامعة لندن قائلة "لجوء وزير المالية إلى الحديث عن العملات المستقرة ما هو إلا محاولة لاستيعاب الخلافات بين كبار المسؤولين بشأن فكرة تحول بريطاني إلى مركز عالمي للعملات المشفرة، وهي فكرة يصعب القول حاليا على الأقل إنها تلقى إجماعا من كبار المسؤولين الماليين، فالتركيز على العملات المستقرة في المرحلة الأولى يعني أن مصدري العملات المستقرة سيحتفظون باحتياطيات متساوية من الجنيه الاسترليني مقابل الرموز الصادرة، وهذا يعني قابلية تحويل تلك العملات إلى العملات الورقية على قدم المساواة وعند الطلب، كما أن مسؤولية تنظيم العملات المستقرة النظامية سيكون مسؤولية بنك إنجلترا".
وتضيف "مع هذا فإن الشكوك لا تزال تساور عددا كبيرا من بعض صانعي السياسة المالية في بريطانيا حول جدوى وخطورة المضي قدما في هذا الاتجاه، فأندرو بيلي محافظ بنك إنجلترا، صرح في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه حكومة المملكة المتحدة توجهاتها الجديدة بشأن العملات المشفرة، أعلن في خطاب ألقاه في مؤتمر STOP عن الاحتيال الرقمي أن العملات المشفرة هي الخط الأمامي الجديد في عمليات الاحتيال الجنائية، وأن التكنولوجيا وفرت فرصا للمجرمين".
وفي الحقيقية فإن ما يمكن وصفه باختلاف الرؤية يترافق أيضا مع نقص واضح في تفاصيل المقترحات البريطانية في الوقت الحالي، لكن نقص التفاصيل لا ينفي أن هناك موقفا ونهجا أكثر دفئا من قبل الحكومة البريطانية لدور الأصول المشفرة في الاقتصاد مقارنة بما كان عليه الوضع سابقا.
لكن النهج البريطاني الجديد دفع البعض إلى التساؤل عن الخطط السابقة بشأن إصدار عملة رقمية لبنك إنجلترا كما تفعل الصين مع اليوان الرقمي، فهل تعني تصريحات وزير المالية الأخيرة بشأن مساعي بريطانيا لأن تصبح مركزا عالميا للأصول المشفرة أن هناك تغيرات في نهج الحكومة البريطانية نظرا إلى أن عملية إصدار عملة رقمية من بنك إنجلترا ستستغرق وقتا طويلا وستكلف كثيرا، أم أن الحكومة البريطانية ترمي إلى إعطاء مساحة للعملات المستقرة شريطة أن تكون ضمن أطر منظمة بشكل جيد، على أمل أن يجعل ذلك المملكة المتحدة تشارك وتستفيد في الوقت ذاته في قطاع العملات المشفرة، حتى يقرر بنك إنجلترا إذا ما كان سيصدر عملة رقمية خاصة به أم لا.
لا تبدو الصورة واضحة حتى الآن وهو ما يدفع بعض الخبراء في مجال العملات المشفرة في المملكة المتحدة إلى الترحيب بتوجهات وزير المالية، لكنه ترحيب حذر إذا جاز التعبير.
ستيفن توملينسن الخبير الاستثماري في مجال العملات المشفرة يقول لـ"الاقتصادية"، "إنه منذ 2015 كانت هناك وعود بريطانية بشأن تنظيم الأصول المشفرة، لكن المشكلات الضريبية وغسل الأموال كان لهما تأثير سلبي في مساعي بريطانيا للمضي قدما في تنظيم هذا القطاع، والاستفادة من إمكانيته المالية الواعدة، وحتى قبل إفصاح وزير المالية البريطاني أخيرا عن رغبته في التحول إلى مركز عالمي للأصول المشفرة، أشارت هيئة تنظيم الخدمات المالية إلى أنها تركز بشكل أكبر على منع المخاطر، بدلا من مساعدة تقنية التشفير على الازدهار".
ويعتقد ستيفن توملينسن أنه يمكن تفهم موقف وزارة الخزانة البريطانية بأنها لم تقدم حتى الآن أي تفاصيل واضحة حول ما سيشمله تنظيم العملات المشفرة، لكن لكي تشجع الاستخدام الأوسع للعملات المشفرة من المستثمرين والمستهلكين، فستكون هناك حاجة ماسة إلى إدخال نوع من نظام التسجيل وآلية لتعويض المستهلك في حال فشلت العملة المستقرة.
ويضيف "بدون تلك الضمانات فإن العملة المستقرة ستفشل، ما يسبب خسائر وأضرارا جسيمة لكل من الاقتصاد الوطني، ولقطاع التشفير والأصول الرقمية بصفة عامة، والأكثر خطورة أنه سيرسخ أفكارا لدى المستهلكين بوجود درجة عالية من عدم اليقين والتقلب في هذا القطاع، ما يبعدهم عن التعامل معه".
وفي الحقيقية فإن ملاحظات ستيفن توملينسن الخبير الاستثماري تحمل في طياتها ما يمكن وصفه بترحيب بخطوات المملكة المتحدة تجاه العملات المشفرة، لكن في الوقت ذاته تحمل شكوكا في قدرتها أن تصبح مركزا عالميا للأصول الرقمية، إنما يمكنها أن تستفيد من الازدهار المتواصل في هذا القطاع
فمن المشكوك فيه بالنسبة إلى كثير من الخبراء أن تصبح بريطانيا دولة رائدة في مجال التشفير، حيث إن أكثر العملات المستقرة نجاحا والتي تأمل وزارة الخزانة البريطانية أن تكون مدخلها لعالم الأصول الرقمية ترتبط بالدولار إلى حد ما.
لكن هذا لا ينفي - من وجهة نظر الدكتور أرثر توم أستاذ النقود والبنوك في جامعة جلاسكو - أن تحصل المملكة المتحدة على موطئ قدم أكبر وأكثر استقرارا في عالم العملات المشفرة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن النهج المعلن من وزارة المالية البريطانية خطوة مهمة، لكن الأمر يتطلب أكثر بكثير من الإجراءات المعلنة حتى الآن لإحراز تقدم، علاوة على التحول إلى مركز عالمي للعملات المشفرة، والأمر في حاجة إلى وضع لوائح تفصيلية بهذا الشأن، كما أن هناك قضية أخرى متعلقة بالطاقة حيث إن إنتاج العملات المشفرة يستهلك كميات ضخمة من الطاقة، ويؤدي إلى زيادة معدلات التلوث، وبريطانيا عليها التزامات دولية بهذا الشأن.
ويقول "لكي يكون لبريطانيا تأثير في سوق العملات المشفرة وأن تكون في مقدمة الدول في هذا القطاع، فيجب أن تكون لديها خطة متكاملة وتفصيلية ومحكمة لكيفية التعامل مع هذا القطاع، يضاف إلى ذلك تخصيص جزء كبير من الموارد للاستثمار فيه، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي سيواجه وزير المالية البريطاني إذا أراد أن يحقق رؤيته على أرض الواقع".