بصمات التضخم وتحولات الاقتصاد
الموجة التضخمية الراهنة على مستوى العالم، أتت لتبقى بعض الوقت، فكل المحاولات لكبح جماحها لم تحقق الأهداف الموضوعة لها، بل يمكن القول إنها فشلت على الأقل في الوقت الراهن، حتى البنك المركزي الأوروبي الذي كان يعتقد أن هذه الموجة عابرة غير نظرته، فقد كانت رئيسته كريستين لاجارد متشددة في مسألة عدم اللجوء إلى رفع الفائدة من أجل ضمان استمرارية النمو، إلا أن بيير ونسش عضو مجلس إدارة البنك المشار إليه لم يستبعد رفعها قبل نهاية العام الحالي، إلا إذا تعرض اقتصاد منطقة اليورو لصدمة شديدة. فالسياسات النقدية المتشددة بدأت تظهر في الواقع منذ مطلع العام الحالي، بما في ذلك "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي الذي سيرفع الفائدة تدريجيا حتى نهاية العام الجاري.
يمكن القول إن الوضع الاقتصادي العام صار تحت رحمة مؤشرات التضخم، التي تختلف من دولة إلى أخرى، إلا أن هذه الاختلافات ليست عميقة. وبينما كان البعض يعتقد أن الموجة التضخمية ستنال من الاقتصادات المتقدمة فقط، إلا أن الاقتصادات الناشئة انضمت إليها بسرعة شديدة، وباتت تعاني تبعات ارتفاع تكاليف العيش، فضلا عن الدول الفقيرة والأشد فقرا. هل هي عاصفة؟ ربما، لكنها بلا شك ستفرض معاييرها بعد أن تنجلي. أو بتعبير آخر، الاقتصاد العالمي لن يكون كما كان قبلها، بصرف النظر عن مستوى التحولات التي ستصيبه. بعض الجهات والشخصيات ذات الاختصاص، تذهب أبعد من ذلك، لتتحدث عن خريطة كونية جديدة للتوازنات الاقتصادية، بعد انحسار موجة التضخم التي لا أحد يعرف متى تنتهي.
إنها حالة متفاعلة، لأن العوامل التي صنعتها لا تزال تضغط هنا وهناك، عبر ارتفاع أسعار السلع والطاقة، واضطراب متواصل لسلاسل التوريد، ومخططات الإنقاذ التي طرحتها الحكومات لاحتواء الآثار الخطيرة لجائحة كورونا، وكانت الأكبر منذ الأزمة الاقتصادية العالمية 2008، وغير ذلك من عوامل جانبية أخرى. لا شك أن الحرب الروسية - الأوكرانية أضافت ضغوطا لم تكن في الحسبان إلى المشهد الاقتصادي العالمي، فالتوترات الجيوسياسية تعني من وجهة نظر الخبراء أن الاقتصاد يتغير، ومن هنا يمكن فهم وجهة نظر أولئك الذين يتحدثون عن خريطة اقتصادية عالمية جديدة في المرحلة المقبلة. فعمق موجة التضخم الحالية، وانتشارها على نطاق واسع، جلبا إلى الساحة مسألة تغيير الشكل الراهن للاقتصادات.
وهذا يعني أن المشهد سيكون مختلفا بعد انحسار التضخم، أو السيطرة عليه، في ظل هذه التطورات التي يمكن أن تصبح لاحقا تحولات. صارت الأسئلة أكثر حدة حول مستقبل العولمة التي قامت أساسا على مبدأ التعاون في الإنتاج، وجني أطراف متعددة - وليست واحدة - العوائد المستهدفة. ماذا يعني ذلك؟ سترتفع بالتأكيد أهمية ما يمكن وصفه بـ"الأمان الاقتصادي" على حساب الكفاءة الاقتصادية. وهذه النقطة تضرب بالضرورة أي تعاون يستهدف اقتصادا عالميا معولما. فالتوترات الجيوسياسية خصوصا تلك التي يطول أمدها، أو تكون حلولها هشة أو مؤجلة، ستدفع المؤسسات المنتجة إلى الاعتماد على سوقها المحلية في عمليات الإنتاج، رغم أنها ستضطر إلى دفع تكاليف أكبر. هذا المنهج سيعزز بالتأكيد أهمية التجمعات الإقليمية الراسخة، التي يمكن أن توفر أدوات الإنتاج وبيئة أكثر أمانا، بأعلى معايير الجودة على الصعيد اللوجستي.
لا يزال الأمر سابقا لأوانه، للوصول إلى الاستنتاجات النهائية بهذا الخصوص. فالأزمة الراهنة على صعيد التضخم وروابطه مستمرة، فضلا عن الحرب الدائرة في أوروبا. لكن بالتأكيد سيكون شكل الاقتصاد العالمي مختلفا عما كان عليه في العقد الماضي، بصرف النظر عن مستوى هذا الاختلاف.