قوى ابتكارية .. التنافسية تتغير

أحدثت جائحة كورونا تغيرات كبيرة في بعض الجوانب، فهناك قطاعات وميادين لم تعد إلى ما كانت عليه قبل هذه الجائحة. وهذا أمر وارد بل طبيعي أيضا، لأن الوباء لم يغير فقط في بعض المناهج، خصوصا في سوق العمل والاستثمار، بل نشر ثقافة جديدة بالكامل وسرع انتشارها وجدواها وإعادة صياغة بعض مكامنها. العمل عن بعد، كان السمة الأشهر خلال فترة كورونا إلى درجة أن عددا متصاعدا من المؤسسات وجد في الأمر مناسبة لإعادة صياغة الحراك التشغيلي لها، بل إن عددا من الجهات التعليمية حول العالم استحسنت المسألة، حيث وضعت التعليم عن بعد خيارا يمكن لمن يرغب من الطلاب في اللجوء إليه، فضلا عن الخدمات الأخرى التي تعمق عملها عن بعد، وكانت بالفعل تتبع هذا النظام منذ أعوام.
هذه المسألة تطرح أسئلة كثيرة حول مستقبل ما يعرف بوادي السيليكون من حيث مركزيته في اختصاصه واستقطاب المؤسسات والشركات الناجحة إليه. فهذا الوادي صار ينظر إليه البعض كدولة كبرى لما فيه من قدرات إنتاجية متطورة، إضافة إلى القيمة الهائلة للمؤسسات المنضمة إليه، وتعمل إطلاقا منه، ولا سيما شركات التكنولوجيا والاتصالات والإنترنت وما يرتبط بها. فقوة وادي السيليكون في كاليفورنيا الأمريكية، تكمن أساسا في هذا القدر من تجمع المؤسسات، وهو ما مثل النقطة الأهم في قوته. ووفق الأرقام الحقيقية تبلغ القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا في هذه المنطقة أكثر من 14 تريليون دولار، أو ما يوازي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي للصين. وشهدت هذه القيمة تصاعدا متسارعا خلال العقدين الماضيين، ما دفع جهات أخرى لإطلاق أوديتها السيليكونية.
ووفق الخبراء، فإن نقاط قوة وادي السيليكون في الولايات المتحدة صارت بعد المعايير التي جلبتها جائحة كورونا، نقاط ضعفه، على اعتبار أن المحورية المركزية لأي أنشطة إنتاجية أو خدماتية أو تقنية أو إلكترونية، لم تعد أساسية في عالم تغيرت فيه طبيعة مزاولة الأعمال والوظائف، أو أنها تشهد بصورة أو أخرى تغييرات في هذا المجال. ولا شك أن القفزات الهائلة التي حققها وادي السيليكون في كاليفورنيا، عززت تحركات الآخرين لاستنساخ التجربة، وإنشاء وديان مشابهة في مناطق أخرى. بالطبع لم تحقق هذه الأخيرة في السابق أي انتصار كبير على المركز الأصلي، إلا أنها وبعد متغيرات بعض صيغ العمل، باتت أكثر حضورا في ساحة دخلت التحولات إليها بالفعل. مع ضرورة الإشارة إلى أن التكاليف الجديدة المنخفضة للتشغيل بات ينظر إليها كنوع من أنواع العوائد.
لا يزال وادي السيليكون يحتكر الساحة العالمية، رغم تراجعه في الأعوام الماضية. لكن فكرة العمل عن بعد أسهمت بالفعل بعد كورونا في هجرة جماعية ليس فقط لرؤوس الأموال، بل للعاملين في هذا الوادي. واستنادا إلى الأرقام المتداولة، فإن 40 ألفا من سكانه هاجروا خلال عام 2021، أي بعد عام الجائحة، ويرى الخبراء أن هذه الهجرة هي الأكبر منذ إنجار فقاعة الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي. يأتي هذا، بينما بلغ عدد الأمريكيين الذي غيروا وظائفهم إلى العمل عن بعد أكثر من خمسة ملايين شخص، في حين أن 20 مليون أمريكي يستعدون لمثل هذا التغيير في الأعوام القليلة المقبلة. من هنا ترتفع حدة الشكوك حول تسيد وادي السيليكون المشهد العالمي، خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان التكاليف المنخفضة للعمل عن بعد، والابتعاد عن المناطق مرتفعة التكلفة من حيث الإيجارات أو امتلاك العقارات. لكن رغم كل الظروف، فإن وادي السيليكون لن يخسر قوته تماما، بل سيشهد على الأقل في الأعوام المقبلة تقلصا نسبيا فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي