فجوات وأعباء .. اقتصاد يتشكل

المخاوف على الاقتصاد العالمي تتصاعد من كل الجهات الدولية، وهي مخاوف تسندها عشرات التبريرات الحقيقية. فأزمة الاقتصاد باتت تتعمق بصورة خطيرة، ومضاعفة، لأنها تتشكل حاليا نتيجة أزمة اقتصادية دولية كبرى تركتها جائحة "كورونا" على الساحة، والتأثيرات الراهنة للحرب الروسية - الأوكرانية في قلب القارة الأوروبية. دون أن ننسى بالطبع، أن وضعية الاقتصاد العالمي كانت جيدة في العقد الماضي، ولكنها لم تكن مثالية أيضا، لأنها شهدت خلافات حتى معارك وحروبا تجارية بين القوى الاقتصادية المؤثرة. الحرب في أوكرانيا التي لا أحد يعرف متى تنتهي، أضافت مزيدا من الشكوك حول مستقبل الاقتصاد العالمي في المديين القصير والمتوسط، بل فرضت معايير جديدة، على الأقل في الوقت الراهن، حتى تتضح الصورة تماما.
من هنا يمكن فهم تحذيرات كريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي الأخيرة، من أن الحرب أثرت سلبا في التعافي الاقتصادي، وأدت إلى تباطؤ النمو المتوقع في معظم الدول. وأطلقت توصيفا دقيقا بقولها "إن هذه الحرب أدت إلى تشرذم الاقتصاد العالمي إلى كتل جيوسياسية". وهذه النقطة مهمة للغاية، لأن الحرب والآثار، التي تركتها "كورونا"، دفعت الحمائية إلى الأمام، بعد أن كان العالم يعمل على التقليل منها، وتحويل التعاون الدولي إلى أداة قوية لتوليد النمو. ولأن المشهد على هذا الشكل، سيكون تخفيض صندوق النقد للنمو العالمي حتميا قريبا، علما بأن الخفض طال النمو في الشهر الأول من العام الجاري ليقف عند 4.4 في المائة. ولن يكون غريبا إذا ما حدد هذا الخفض عند أقل من 4 في المائة، ولمعرفة نطاق الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، تكفي الإشارة إلى أن 143 دولة ستعاني تراجعا في النمو الاقتصادي.
في ظل الحرب الحالية في أوروبا، تعاظمت أرقام التضخم في موجة أحاطت بكل دولة على وجه الأرض، والأسباب معروفة للجميع، وترتبط مباشرة باضطراب سلاسل التوريد، التي كانت مضطربة حتى قبل انفجار أزمة كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. فروسيا وأوكرانيا تعدان من الدول الرئيسة في الصادرات الغذائية، ولا سيما الحبوب وزيت الطعام والأسمدة الزراعية المختلفة، فضلا عن قدرة الإمدادات الروسية من الطاقة، التي باتت في دائرة الشك منذ اليوم الأول لهذه الحرب. ورغم كل المحاولات التي بذلت من أجل تخفيف الضغوط الآتية من موجة التضخم، إلا أن الأسعار بقيت مرتفعة وتزداد حتى بصورة شبه يومية. فالتداعيات الاقتصادية اتسعت بالفعل وصارت تشمل حتى البلدان البعيدة جدا عن ساحة المعارك، خصوصا الدول الفقيرة أو تلك التي توصف بالأشد فقرا.
ليست هناك حلول سريعة للأزمات التي يمر بها الاقتصاد العالمي، وإن كانت سلاسل التوريد المسألة الأكثر تطلبا لمثل هذه الحلول، لأنها تخفف في النهاية من الضغوط التضخمية. لكن من الواضح أن الفجوات التي ظهرت في هيكلية الاقتصاد العالمي من جهة الإمدادات، ستؤدي حتما إلى إعادة النظر في مسار آليات ولوجستيات التوريد بشكل عام. تعتقد رئيسة صندوق النقد الدولي، أنه لا بد من إجراءات حاسمة لضمان الصمود والاستدامة على المدى الطويل، إلا أن البيئة الدولية العامة لا يبدو أنها قادرة على توفير أي ضمانات بهذا الخصوص. وإذا ما أعيد تشكل أو رسم سلاسل التوريد، لن يصب ذلك في مصلحة الاقتصاد العالمي على الأقل في فترة الأزمات، بل سيتركز في المناطق الإقليمية. إنها مرحلة صعبة للغاية مليئة بضربات التضخم ونقص الإمدادات، وأعباء أزمة صحية وحرب لا تزال تجري على الأرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي