لعولمة جديدة واقتصاد متوازن

تطرح حاليا أفكار تمس العولمة مباشرة، خصوصا في أعقاب سلسلة من التطورات العالمية، فرضت معاييرها على الأقل في المدى المتوسط.
والعولمة، التي صارت تقريبا منهجا اقتصاديا، واجتماعيا، حتى سياسيا، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت شكلا أعمق لعولمات، إن جاز التعبير، سادت العالم بصورة أو أخرى حتى نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومرور الولايات المتحدة بفترة الكساد العظيم، مع ضرورة الإشارة، إلى أن الحرب الثانية أسهمت في مقاومة هذا الكساد، وقللت آثاره شيئا فشيئا، عبر موجة هائلة من التصنيع، من أجل تلبية الاحتياجات في زمن الحرب.
لكن تبقى الأسئلة حاضرة على الساحة بشأن وضعية العولمة حاليا في ظل التطورات الأخيرة، وغيرها من المؤثرات التي تبدو أنها وجدت كي تضرب العولمة بشكلها المعروف.
في كل أزمة كبرى تثار هذه الأسئلة، بما في ذلك تلك التي سميت بفقاعة الدوت كوم أو فقاعة الإنترنت، إلى جانب طبعا الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انفجرت 2008، بل حتى في ظل المشكلات الاقتصادية الخطيرة، التي عصفت ببعض دول الاتحاد الأوروبي قبل عشرة أعوام تقريبا.
أي مع كل أزمة بصرف النظر عن ماهيتها، تثار الأسئلة عن العولمة ومستقبلها ومسارها وتأثرها بما يجري على الأرض.
اليوم بعد جائحة عالمية خطيرة أتت بأزمة اقتصادية عميقة وليست عابرة، واضطراب لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية لسلاسل التوريد خلال هذه الجائحة، إلى جانب طبعا الصراع الراهن بين الغرب وروسيا على الأرض الأوكرانية، تعمقت أكثر معدلات التضخم على المستوى الدولي، مع مؤشرات واضحة على أن الموجة التضخمية هذه لن تتوقف بسرعة من خلال الارتفاعات المتتالية لأسعار الغذاء والطاقة.
لكن هل يكفي هذا لإنهاء العولمة، أم إعادة تشكلها، وفق التطورات المحورية الراهنة؟ لا أحد يعتقد بنهاية العولمة، فقد صارت مع الأعوام الماضية أمرا واقعا من الناحيتين النظرية والعملية.
ولا بد من الإشارة إلى أن تأثير وتأثر العولمة يختلفان بين منطقة وأخرى، فهي في الغرب ليست تماما كما هي في الشرق، ويعود ذلك إلى طبيعة الاقتصادات الحاضرة في هذه المنطقة أو تلك.
لكن في النهاية تبقى معاييرها ومخرجاتها وتداعياتها واحدة، والأهم روابطها في الاقتصادات الوطنية هنا وهناك، مع الإشارة إلى أن الكتل الاقتصادية الكبرى تبقى أقل انكشافا في مثل هذه الظروف، لكنها بالتأكيد تتأثر كغيرها بها.
يؤكد ألان جرينسبان، الرئيس السابق للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن العولمة والابتكار هما عنصران أساسيان في أي نموذج قادر على تفسير أحداث الأعوام العشرة الماضية، واصطلح على وصف ذلك بالاعتدال العظيم.
أمام بعض التحولات، وكثير من التطورات، ستتطور العولمة متأثرة بالطبع بها، ولا سيما في ظل التصاعد التضخمي الكبير وأحيانا الخطير حول العالم، فالظروف الراهنة تستوجب التمسك بالعولمة المتطورة إن جاز الوصف، ليس فقط للسيطرة على الموجة التضخمية الكبيرة، بل لضمان مستقبل اقتصاد عالمي أكثر توازنا، مع التأكيد على أهمية اغتنام الفرص التكنولوجية، والجغرافية، والعامل الأخير مهم جدا، خصوصا في فترة الأزمات، فالتكاليف الاقتصادية باتت كبيرة من جهة التضخم، فضلا عن التكاليف السياسية، التي تعد أكثر خطورة، لأنها تضرب الاستقرار المطلوب لأسواق تستهدف النمو والإنتاج والوصول إلى الميادين العالمية بكل أشكالها.
حتى العوائد الاجتماعية لحزم الدعم التي اعتمدتها الحكومات لمواجهة آثار جائحة كورونا، باتت في خطر الآن مع اضطرار هذه الحكومات للتوجه نحو التشديد المالي.
المرحلة المقبلة ستكون مختلفة عن كل المراحل السابقة، على صعيد مفهوم العولمة التي يبدو أن العالم لا يمكنه الاستغناء عنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي