هل نوظف العقل الجمعي في البناء؟
يتباين الناس في أذواقهم وقدراتهم على إصدار الأحكام على الآخرين، والأشياء التي يتعاملون معها، ولذا نلاحظ جودة الأحكام عند البعض، وضعفها عند آخرين، وهذا يتسبب في كثير من المشكلات، خاصة لمن تتسم أحكامهم بقلة النضج.
وهذا ربما يعود لقلة الخبرة، أو ضعف القدرة العقلية، مع ما يمكن تسميته بضعف الشخصية عموما، الناجمة عن ضعف الإدراك، ومتى وجدت مثل هذه الخصائص عند فرد فلا شك ستنعكس آثارها على سلوكه وتصرفاته تجاه ذاته ومع الآخرين، ليتصرف الفرد بلا وعي، أو بما لا يخدم مصلحته على المدى البعيد.
المشاهد في الأسواق، والمعارض، أو في الاتجاهات نحو الأندية، أو اللباس، وأدوات الزينة، أو حتى الأشياء الثمينة كالسيارات، والمقتنيات، والاثاث، بل حتى المظهر، كحلاقة الشعر وطريقة اللباس تكشف بما لا يدع مجالا للشك سيادة حالة الانقياد الأعمى عند البعض، وربما عدم القدرة على التمييز بين المهم، والأهم والاحتياج وعدم الاحتياج، والقدرة وعدم القدرة، والمناسب وغير المناسب.
أثناء تجوالك في ردهات معرض كتاب لا تتفاجأ أن ترى تجمعا وزحاما يصل حد الفوضى أمام محال بيع الكتب ليقودك حب الاستطلاع هناك، وتسأل ما القصة؟ لكن الجميع، كما تشاهد يتنافسون في شراء كتاب من الكتب، وربما يقودك الفضول لتسأل أحد الواقفين بانتظار نسخته ما الكتاب؟ وما موضوعه؟ ومن مؤلفه لتكون الإجابة: لا أعرف، وهنا مربط الفرس لتسأل إذن لماذا تجمع كل هؤلاء؟ ليكون التفسير النفسي سيادة العقل الجمعي لدى المتجمهرين جعلت الكل يسير خلف الكل بلا رؤية، وربما بعضهم ليس من هواة القراءة في موضوع الكتاب، وليس في تخصصه، وإنما مثله مثل الآلة المتحركة بجهاز التحكم عن بعد حين يغيب الوعي والنضج.
الانقياد وراء الآخرين لا يقتصر على اقتناء الأشياء المادية، بل يتعدى إلى تبني الأفكار والآراء لشخص ظروف الزمن جعلت منه مشهورا، حتى أصبحت الجموع تتزاحم على خطبه وأحاديثه، وتقتني كتبه، أو مقالاته، لا لشيء إلا أن فئة في المجتمع انساقت وراءه تردد كلماته، وصار الجمع يتهافت عليه، وكما يقول المثل «مع الخيل يا شقراء».
في الستينيات الميلادية، شهد العالم العربي انقضاضا سريعا وراء أفكار وأيديولوجيات كشف الدهر فيما بعد إفلاسها، كما في الاشتراكية، والبعثية، والناصرية. ويذكر لي أحد الإخوة المصريين أنهم في زمن الرئيس جمال عبدالناصر كانت الجموع الغفيرة تمشي في الشوارع كالسيل الجارف أثناء إلقاء الرئيس خطبه، ويرددون عبارة البيت لساكنه، التي كان يرددها عبدالناصر ليعزف على مشاعر وعواطف الشعب المسكين، ويردف بالقول لقد كنت واحدا من الجموع التي تردد هذه الشعارات، وباستمتاع وحماس لا نظير لهما ليتحول القانون غصة لي ولملايين المصريين، إذ لما تزوجت احتجت إلى شقة تملكها أسرتي لأسكنها، ولم أتمكن حيث الساكن رفض الخروج منها، وأصبح الساكن يورثها لأبنائه، وأحفاده، وأنا محروم منها حتى اللحظة، كما يقول.
الانقيادية، أو العقل الجمعي تظهر على ما يشبه موضات يتبناها في البداية صاحب مصلحة مادية أو معنوية، لكنه يجد من يتبعه، ويتبنى ما يطرحه، دون محاولة لفهم ما يدعو إليه صاحب المصلحة، ولا قدرة على التمييز، ذلك أن الجمع التابع ينساق بلا وعي ولا محاولة لتمييز إن كان الموضوع يستحق التبني، أم لا لأنه لم يصل إلى درجة النضج التي تؤهله لذلك.
في زمن التقنية فائقة التقدم، ومع توافر وسائل التواصل الاجتماعي بين يدي كثير من الناس، ومع نشاط ممتهني الدعاية أصبحت حالة الانقياد، واللهث وراء المواد الاستهلاكية حالة شائعة الحضور، حتى ليخيل للمراقب أن فئة الانقياديين يعانون مما يمكن تسميته بالجوع الاستهلاكي، دونما مراعاة للموازنة بين الدخل والاستهلاك الفاحش.
كما أشرت: العقل الجمعي ليس محصورا في مجال، بل اجتاح الهوس في المطاعم والمقاهي حتى أصبحنا نسمع الإقبال الجماهيري الهائل على مطعم ليقف الناس في عز الشمس انتظارا لدورهم في الدخول للمطعم، وكأن الأمر يمر بمراحل، فقبل سنوات كانت موضة المطاعم الصينية، حتى أصبحت حديث المجالس، كما كان للمطاعم الهندية موسمها، والآن موجة المطاعم المصرية، وكأني بعد فترة قد لا تكون طويلة ستكون الموجة لنوع آخر من المطاعم.
يتحقق العقل الجمعي عندما يكون الموجه مفوها، لديه كاريزما تؤثر في العامة، ويخاطب الناس من خلال عواطفهم ومشاعرهم، وليس من خلال عقولهم، وهذا المبدأ تعتمد عليه الدعاية، وجهات التأثير المختلفة، فهل نتمكن من توظيف العقل الجمعي للتوجيه نحو الأعمال والنشاطات المفيدة للأفراد والمجتمع بدلا من انصرافهم لنشاطات ليست ذات جدوى؟