الثروات .. معادلات القيمة والندرة
في مقارنة لا تخلو من عنصر التشويق لأوجه الشبه والاختلاف بين الذهب والعملات المشفرة، خاصة عملة بيتكوين، من الواضح جدا أن الحرب الروسية - الأوكرانية وما نتج عنها من تدهور في عملات الدول المتحاربة قد أوجدا لهذه المقارنة غطاء منطقيا، فكيف تنجو الثروات من الحرب؟ كانت الإجابة عن هذا السؤال متركزة في الذهب، لأنه قابل للتحويل إلى أي عملة واستبداله بأي سلعة، لكنه صعب التخزين وشديد الخطورة عند الانتقال بين الحدود.
وخلال الحرب الأخيرة ظهرت بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة كطوق نجاة للأوكرانيين، فقد حققت الشرطين، كونها قابلة للتبادل مع أي عملة وأي سلعة، ويمكن فوق ذلك نقلها وتبادلها من خلال جهاز محمول والوصول إلى شبكة الإنترنت من أي مكان في العالم، فالعملات المشفرة قامت بدور في حفظ الثروات، وكأصل يختاره المستثمرون لمعالجة المخاطر الشديدة وعدم استقرار الأسعار والاضطرابات الجيوسياسية من النوع الذي تجسده الحرب الروسية - الأوكرانية.
هذا الواقع المستجد جعل الأصول المشفرة - كما يسميها صندوق النقد الدولي - جزءا لا يتجزأ من ثورة الأصول الرقمية.
من الغريب جدا أن تتغير النظرة إلى العملات المشفرة بهذه الصورة، ففي تقارير عدة نشرها صندوق النقد الدولي 2018 على موقعه الإلكتروني ما زالت شاهدا على قلق الصندوق من هذه العملات عندما كانت وجهة النظر السائدة حينها أنها لا تفي بالوظائف الأساسية للنقود كمخزن للقيمة، ووسيلة للتبادل، ووحدة حساب، نظرا إلى أن قيمتها شديدة التقلب، فليست لها فائدة تذكر كوحدة حساب أو مخزن للقيمة. كما أن تكلفة إنتاج عديد من العملات المشفرة مرتفعة، ما يعكس الكمية الكبيرة من الطاقة اللازمة لتشغيل أجهزة الكمبيوتر التي تحل ألغاز التشفير. لكن لا أحد ينكر أن الأوضاع الاقتصادية العالمية قد تغيرت بعد الجائحة والحرب التي تلتها مباشرة، فكما تشير التقارير إلى أن الحماس تجاه العملات المشفرة قد اجتاح ملايين المستثمرين اليوم، ما جعل البعض يدعي أنه في عالم ما بعد الجائحة، يمكن أن تحل عملة بيتكوين محل الذهب. لكن السؤال الأهم: هل فعلا تغير الاقتصاد العالمي حتى هذه الدرجة؟ المسألة ليست ببساطة مقارنة بين الذهب والعملات المشفرة، لكن تجربة الروس والأوكرانيين مع بيتكوين كانت مثيرة للحماس وسمحت لهم بتجاوز أنظمتهم المالية التقليدية الهشة، كما أن حكومة أوكرانيا جمعت أكثر من مائة مليون دولار من التبرعات بالعملات المشفرة من جميع أنحاء العالم لتمويل دفاعاتها، واكتشف اللاجئون الأوكرانيون أن تحويل أموالهم إلى عملة مشفرة على الهاتف يوفر عملة محمولة أكثر سهولة من الذهب. هذا الدعم الفلسفي والتطبيقي الجديد للعملات المشفرة لم يكن متاحا قبل ذلك، ما يفسر اهتمام أصحاب رؤوس الأموال المغامرة في وادي السيليكون مثل شركة أندريسن هورويتز. وبالعودة إلى المقارنة بالذهب فإن الصفة المشتركة بينه وبين العملات المشفرة ويمكن أن تكون الوحيدة فعلا هي الاعتقاد المشترك من عدد كاف من الناس أنهما قيمان، وهذا يضعنا أمام حقيقة لا مفر منها، فلا يمكن التعويل على أي عملة مشفرة إلا بقدر ما تحقق هذه الصفة، صفة الاعتقاد المشترك بين عدد كاف من الناس أنها ذات قيمة. ولعل هذه الصفة آخر ما تبقى لما سيسمى عملة في المستقبل، وهذا هو محل الجدل، فالشروط التي كان يضعها المنظرون الاقتصاديون بشأن ما هو عملة وما هو خلاف ذلك، لم تعد قائمة كما يبدو خاصة في عالم جديد يتشكل داخل برامج "الميتافيرس"، فعبارات مثل مخزن للثروة، والندرة، لم تعد ذات معنى كبير، فرغم الاعتقاد السائد أن أداء الذهب جيد في الفترات التضخمية وفي فترات الانكماش، لكن الوقائع التاريخية تؤكد أن أي شخص اشترى الذهب بسعر 843 دولارا في 1980، استغرق الأمر حتى كانون الثاني (يناير) من 2008 حتى يتعافى ويصل سعره إلى المستوى نفسه. وفي الفترة من كانون الثاني (يناير) 1980 إلى نقطة منخفضة خلال العقد في شباط (فبراير) 1985، كانوا سيتكبدون خسارة رأسمالية تزيد على 66 في المائة، والمشكلة ذاتها مع بيتكوين وفقا لصندوق النقد الدولي، حيث تصرفت بيتكوين في عامي 2020 و2021 كأصل محفوف بالمخاطر يتحرك بما يتماشى مع أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى. وعلى عكس الذهب، لم تتصرف باعتبارها أصلا بعيدا عن المخاطر منذ حرب أوكرانيا. والادعاء بندرة الذهب ظل موضع شك منذ تدفق الذهب والفضة من القارة الأمريكية وأدى إلى حدوث طفرة اقتصادية تسببت في ارتفاع مستويات الأسعار، إذ شهدت إسبانيا ارتفاعا هائلا في سعر الصرف الحقيقي بعد التعديل وفقا للتضخم، وعانت البلاد تدهورا لقرون طويلة تحولت على أثره إلى دولة جامدة سياسيا واقتصاديا. وإذا كان هناك ادعاء بأن مصمم عملة بيتكوين قد حدد عددها منذ البداية لإيجاد فكرة الندرة، فإن هناك سؤالا أساسيا طرحه روبرت أليبر، الأستاذ الفخري في جامعة شيكاغو: هل يمكنك الوثوق بأن "ساتوشي ناكاموتو" سيحد من إصدار عملة بيتكوين؟ خاصة أن الخبير الاستراتيجي في الأسواق ورئيس الأصول البديلة في شركة شارد كابيتال، يؤكد أن الأصول بالعملات الرقمية لا تختلف عن مخطط بونزي كلاسيكي، حيث يستخدم التدفق المستمر للوافدين الجدد للدفع للأعضاء الأقدم منهم. وهذا القلق هو الذي يجعل البنوك المركزية تعمل بجد من أجل عملاتها المشفرة وهو ما يحقق لها مجالا تنظيميا يعزز من مفهوم العملة القابلة للتبادل.
في الواقع، كما قامت الصين فعلا بحظر جميع أنشطة تداول العملات المشفرة في أيلول (سبتمبر) 2021 بينما تروج للعملة الرقمية الخاصة ببنكها المركزي، فلم تعد الندرة محل تقييم للعملة الجيدة من غيرها، لكن لعل آخر المعاقل لتحدي ماهية العملة القابلة للتداول يأتي من مقولة اقتصادية قديمة مفادها أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول.