الكتابة الشذرية .. رقميات تهدد «فن الخلود» بالزوال

الكتابة الشذرية .. رقميات تهدد «فن الخلود» بالزوال
الكتابة المقطعية قواعد وضوابط تتجانس لتقيم نصا متوترا يلخص كثافة العالم.
الكتابة الشذرية .. رقميات تهدد «فن الخلود» بالزوال
البرتغالي فرناندو بيسوا صاحب كتاب "اللاطمأنينة".

أعادت مواقع التواصل الاجتماعي الروح إلى الكتابة الشذرية، التي ظهرت على استحياء كجنس أدبي، وتعرف في فترات تاريخية مختلفة، باشتراطها على المستخدمين عددا معينا من الحروف والكلمات، ما أنعش هذا الشكل التعبيري بين أهل الأدب ومحترفي الكتابة. والشذرة باختصار "نص تعبيري، يحتوي على أكبر عدد ممكن من الأفكار في أقل عدد ممكن من الألفاظ"، واستطاع بهذه المواصفات أن يساير قيود وشروط وسائل التواصل الاجتماعي، شكلا "محدودية الحجم" ومضمونا "دقة التعبير".
ساد أكثر من قول في سياق التأريخ لبداية الكتابة الشذرية، وإن كان الإجماع شبه منعقد على رد أولياتها إلى القرن الخامس قبل الميلاد عند الإغريق، مع فلاسفة الطبيعة "الكوسمولوجيين"، أمثال: طاليس وأنكسمندريس هيراقليطس.. والفيلسوف الغامض الإفسوسي، صاحب مؤلف "في الطبيعة" الذي وصلتنا منه 130 شذرة فقط. وظهرت في كتابات هؤلاء بسبب قلة النصوص المكتوبة مقارنة بالشفوية، علاوة على ندرة الكتابة كحرفة مكتملة.
لم تفرض الشذرة أو الكتابة المقطعية نفسها جنسا أدبيا إلا في النصف الثاني من القرن الـ17، بعد وضع مفكرين وأدباء أوروبيين - "خواطر" باسكال و"الثوابت" فرانسوا دو لاروشفوكو و"الطبائع" جان دي لابرويير ثم "تأملات" جون جاك روسو.. - مصنفاتهم بهذا الأسلوب في الكتابة. لكن هذه الكتابة لم تصبح منهجا في التعبير وأسلوبا خاصا إلا في النصف الثاني من القرن الـ19، مع انتشار مؤلفات الفيلسوف فردريك نيتشه الذي سخر هذه الكتابة للتمرد على التأليف الفلسفي النظامي الكمي النسقي. فالشذرة بالنسبة إليه "فن الخلود"، حيث يقول "مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب".
الشذرة لم تكن رديفة الفلسفة وحدها، وإن أضحت في تناغم مع الفلسفات اللاعقلانية والتفكيكية حيث انهيار المعنى والدلالة. إذ ظهرت في كتابات مبدعين في الشعر والأدب، فحضرت في كتابات مجموعة من الشعراء الرومانسيين الألمان والفرنسيين أيضا، أمثال بول فاليري وستيفان وبيير جوردان وإدموند جابيس... ممن عدوها مسلكا لصياغة رؤية تراجيدية، تفضح وضعية إنسانية هشة قوامها الضجر والاستلاب والتفكك.
للتاريخ، وجبت الإشارة إلى مصنفات تراثية تحمل هذا الاسم، وإن لم تكن بالدلالة السياقية ذاتها، فقد وضع الأديب عبدالحي ابن العماد الحنبلي كتاب "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" (ثمانية أجزاء). وكتب العلامة المغربي أبو أويس محمد العمراني بوخبزة كتاب "الشذرات الذهبية في السيرة النوبية". حضرت الشذرة في الثقافة العربية في الكتابات العرفانية والتجليات الصوفية بدءا من القرن الرابع الهجري، كما في "طواسين" الحسين بن منصور الحلاج، و"تجليات" عبدالجبار النفري في "المواقف والمخاطبات"... وهكذا شاعت الشذرة أسلوب كتابة في حلق التصوف أكثر مما عرفت في رحاب الأدب، حيث الإخلاص للقصيدة "الشعر" أو النص "النثر".
تعتمد الشذرة على الإيحاء والإشارة وتهجر الفكر والمنطق، ما يجعل كثيرين، قراء وكتابا على حد سواء، يمزجون بينها وبين الخاطرة. وزادت منصات التواصل الاجتماعي في هذا الالتباس، بإتاحتها للمستخدمين فرصة تدوين اليوميات في الحسابات الشخصية، فاتسع نطاق كتابة الخاطرة في هذه الفضاءات، ليغطي على الكتابة الشذرية. وإن كان الفارق بين الاثنين كبيرا جدا، فقد ذهب الفيلسوف الألماني كارل كراوس إلى حد تفضيل الشذرة على كل فنون القول الأخرى، لأنها كتابة إشكالية بامتياز، تطرح الأسئلة أكثر مما تقدم الأجوبة، ما حدا بفريدريك شليجل الكاتب الألماني إلى اعتبارها "فنا يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، لعجز معاصريه عن فهمه أو تقبله".
إذا كان الفيلسوف نيتشه مؤسس الكتابة الشذرية حديثا، رغم التحفظات، لارتباط هذه الكتابة ببداية جنونه وفقدانه التوازن، فإن إميل سيوران الفيلسوف الروماني الأصل يبقى بلا منازع أفضل كاتب للشذرات، رغم اعترافه بأن هذا النمط من الكتابة قد فرِض عليه بعدما هزمته اللغة. وتبقى الكتابة الشذرية استثناء، إذ بإمكان القارئ أن يقلبها دون أن تفقد معناها، فشذرة "المياه كلها بلون الغرق" تبقى ذات معنى حتى ولو قرأت بالمقلوب "الغرق كله بلون المياه".
يصطف إلى جانب سيوان في قائمة رواد هذا النمط الفرنسي رولان بارت "شذرات من خطاب العشق" وتيودور أدورنو بكتاب "الأدب الصغير"، ومؤلف "شذرات" البلغاري إلياس كانيتي، والبرتغالي فرناندو بيسوا صاحب كتاب "اللاطمأنينة"، والإيطالي متعقب الأعاجيب، كما يصف نفسه، فابريتسيو كارامانيا مؤلف كتاب "خيوط حرير"، وضاغط الكلمات أنطونيو كاستر ونووفو صاحب "العالم قرية صغيرة"... عربيا، تزايد حضور الكتابة الشذرية في الشعر "الماغوط، أدونيس دوريش، بنيس، الطبال..."، أما في النثر، فالساحة لم تعرف سوى محاولات الراحل عبدالكبير الخطيبي المبدع المغربي، وأخيرا محاولة بنسالم حميش في "الجرح والحكمة"، وفي روايته التراثية "مجنون الحكم".
يذكر أن المفكر عبدالسلام بنعبد العالي خص الكتابة الشذرية بحيز مهم في كتاباته، وقال في معرض تحديد ماهيتها "ليست الكتابة الشذرية هي كل كتابة متقطعة تفصلها فراغات. قد تكون الكتابة مفصولة الأجزاء، لكنها لا تكون كتابة شذرية". ذلك أن الانفصال في الكتابة الشذرية مضمون وليس شكلا". وفي سياق التحديد دائما يضيف "بدل (بحر برهان) تقيم الكتابة الشذرية (جزر معان). ذلك أن الشذرة تصدع الخطاب، وتقضي على الوصل فيه، ذلك الوصل الذي يرمي إلى بلوغ المعنى النهائي، واستخلاص النتيجة".
لكل ما سبق، يصعب الحديث عن الكتابة الشذرية في منصات التواصل الاجتماعي، فالكتابة المقطعية قواعد وضوابط تتجانس لتقيم نصا متواترا يلخص كثافة العالم، لا مجرد لغو كلامي وسفسطة تعج بها الحسابات الشخصية في هذه المواقع، ما يكرس السطحية والتسطيح اللذين جاءت الشذرية لمحاربتهما.

الأكثر قراءة