هوس المضاربات .. تقييمات مفرطة تنتهي بفقاعات اقتصادية وانفجارات

هوس المضاربات .. تقييمات مفرطة تنتهي بفقاعات اقتصادية وانفجارات
هوس المضاربات .. تقييمات مفرطة تنتهي بفقاعات اقتصادية وانفجارات

في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي عانت أمريكا فقاعة شركات التكنولوجيا، وفي العقد الأول من القرن الـ21، أصبحت سوق العقارات قوية وجذابة بطريقة مخيفة، واليوم هناك ما يشبه الهوس بالعملات المشفرة والرموز غير قابلة للاستبدال في مجال الفن الحديث.
الصفة الجامعة بين تلك القطاعات أنها حظيت أو تحظى باهتمام زائد للغاية من قبل المضاربين، ما يتسبب في ارتفاعات فلكية في أسعار ما يتم المضاربة عليه، ويصبح المضارب مع مرور الوقت متأثرا في قراراته بتصرفات المجموع أكثر من أن يكون قراره بالمضاربة ناجما عن خياراته الخاصة، وبحيث يبدو الأمر وكأنه لا يعود إلى اتخاذ قرارات محسوبة، بقدر كونه جزءا من عدوى جماعية.
وترتبط المضاربات في معظمها بما يعرف بالتكهنات، وفي الواقع، فإن التكهنات لا تعد ظاهرة اقتصادية حديثة، حتى القرن الـ18 كان غالبا ما يستخدم مصطلح "التخمين" لوصف التوقعات حول المستقبل، لكن نتيجة مجموعة من الفضائح المالية في سبعينيات القرن الـ18، بات مصطلح "المضاربة" هو المصطلح الأكثر استخداما عند وصف المقامرة المالية عالية المخاطر، ولهذا نجد أن مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث استخدم مصطلح المضاربة كثيرا في كتابه الشهير "ثروة الأمم"، ومنذ ذلك الحين بات المصطلح شائع الاستخدام لكيفية سعي المضاربين للاستفادة بشكل كبير من المخاطر الكامنة والمجهولة لتحقيق أرباح مستقبلية.
ويشير الخبراء إلى أن المضارب يستخدم استراتيجيات تعتمد على الأطر الزمنية القصيرة للتغلب على المستثمرين التقليدين، الذين يفضلون مددا زمنية أطول، ومن ثم فإن المضارب يخاطر في الأساس من منطلق توقع تحركات الأسعار في المستقبل، على أمل تحقيق مكاسب كبيرة تكفي لتعويض مخاطره.
وقال لـ"الاقتصادية" الدكتور ميتشال لورانس، أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن، "لقد تغيرت المضاربة بمرور الوقت، على الأقل فيما يتعلق بالأسواق المالية، ففي الماضي كانت تعني عموما الاستثمار في الشركات، التي لديك عنها القليل من المعلومات أو لا تمتلك عنها معلومات على الإطلاق، وتطور المفهوم ليكون أكثر ارتباطا بالاستثمار في الأوراق المالية، حيث كانت أرباح الأسهم غير مؤكدة، ولفترة طويلة من الزمن كان الاستثمار في الأسهم يعد مضاربة، لأن جميع توزيعات الأرباح تقديرية".
لكن الأمور تغيرت في وقت لاحق، إذ باتت المضاربة تعني الآن الاستثمار على أمل زيادة رأس المال، أي البيع لشخص ما بسعر أعلى مما تم الشراء به.
من هذا المنطلق يعد كثير من الخبراء أن المضاربين مستثمرون متطورون أو متداولون يشترون الأصول لفترات قصيرة من الزمن، ويستخدمون استراتيجيات من أجل تحقيق الربح من التغيرات في الأسعار، ومن ثم فهم ليسوا مقامرين يعتمدون على الحدث أو المشاعر، وإنما يعتمدون على الأنماط المتكررة في السوق، والقواسم المشتركة بين ارتفاعات الأسعار وانخفاضاتها، في محاولة لاستخدام هذه المعلومات للاستفادة من الصعود وهبوط الأسعار في المستقبل، ولأن الأسعار تتحرك دائما وهناك متغيرات متعددة يجب مراعاتها، فغالبا ما يطور كل مضارب طريقته الخاصة في التداول.
مع هذا لا تزال المضاربة كمفهوم اقتصادي لا يحظى بقبول لدى البعض، ومن بينهم البروفيسور توم روجر، أستاذ الاقتصاد الحديث في جامعة بيرمينجهام، إذ قال إن "المضاربات الاقتصادية توجد سلوكا عاما يؤدي إلى مبالغة مفرطة في التقييم، وزيادات هائلة في الأسعار، وينتهي الأمر بفقاعات اقتصادية، تواجه بانفجار في نهاية المطاف، لأنه لا يوجد أساس اقتصادي لها، والنتيجة غالبا خسارة صغار المضاربين لأموالهم".
لكنه يرى في حديثه لـ"الاقتصادية"، أن هذا لا ينفي وجود أسس موضوعية تدفع الأفراد للمضاربة، من أبرزها من وجهة نظره إفراط البنوك المركزية منذ العقد الأول من القرن الحالي في ضخ تريليونات الدولارات في الاقتصادات الوطنية عن طريق شراء السندات الحكومية، ما أوجد سيولة مالية ضخمة سمحت للأفراد بالمضاربة بقوة في قطاعات اقتصادية متنوعة، وكذلك انخفاض سعر الفائدة، ما يتيح الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة والمضاربة عبر الأموال المقترضة لسداد الفائدة وأصل رأس المال المقترض".
لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار المضاربات الاقتصادية أمرا سيئا على الاقتصاد؟ بمعنى آخر، هل جميع المضاربات الاقتصادية أو المالية سيئة ويجب التصدي لها؟
في الواقع تتبنى المدرسة الاقتصادية التقليدية موقفا سلبيا من المضاربة، وتعدها سيئة أو على الأقل ضارة بالاقتصاد، لأنها لا تسهم أبدا في الاقتصاد المنتج، وفقا لوجهة نظرها، فالأثر الاقتصادي السلبي للمضاربة يتمثل، وفقا لوجهة النظر تلك في تحويل الموارد بعيدا عن القطاعات الاقتصادية المنتجة إلى المضاربة بهدف تحقيق الربح السريع.
إلا أن بعض الخبراء يعتقدون بأن المضاربة ليست بهذا السوء طالما لم تكن مفرطة، ولم تتسبب في ضرر للاقتصاد الكلي، بل ويشير بعضهم إلى أن النشاط الاقتصادي العام يتضمن في كثير من جوانبه درجة من درجات المضاربة.
من جانبه، ذكر لـ"الاقتصادية" المحلل المالي إس.آر . سميث من بورصة لندن، أن "في كثير من الأحيان تفشل الشركات في تحقيق معدلات الأرباح المستهدفة في إطار زمني محدد، ومع توقعات المساهمين بمزيد من الأرباح، فإن ذلك يضغط على المديرين في المدى القصير، ما يجعلهم يتخذون قرارات تتضمن درجة ما من المضاربة لتعظيم الأرباح".
وأضاف أنه عندما يتم الاحتفاظ بالأصول، حيث تعتمد الأرباح على الأصل الأساسي مثل العقار أو سيارة، فإن المضاربة تكون مفيدة للاقتصاد، لأنها تسمح للبنوك بإقراض مزيد من الأموال للاقتصاد المنتج، لكن المضاربة تصبح سيئة عندما يتم استثمار مبالغ متزايدة باستمرار في منتجات مشتقة تعد بعوائد كبيرة لا تدعمها الأرباح الأساسية الفعلية أو القيمة الحقيقية للأصول.
وتعزز وجهة النظر تلك تقديرات البعض بأن المضاربين في أحيان كثيرة يعدون عنصرا مهما في الأسواق، لأنهم يجلبون سيولة مالية تسهم في تنشيط الاقتصاد، كما أنهم يتحملون مخاطر السوق.
وكانت المضاربة وستظل معنا دائما، سواء في سوق الأوراق المالية أو غير ذلك من القطاعات الاقتصادية، لكن هذا لا يجب أن يمنع من فرض قيود للحد منها ومن تأثيراتها السلبية في الاقتصاد وفي صغار المضاربين، وفي الواقع هناك عدد من الطرق التي يمكن من خلالها التحكم في المضاربة، أو على الأقل إبقاؤها ضمن الحدود، التي قد تقلل الضرر منها.
من ناحيته، أشار فابيو بلاسميث، الخبير المحاسبي لـ"الاقتصادية" حول بعض تلك الإجراءات بالقول، "ربما يكون إصلاح النظام الضريبي من بين تلك الخطوات، فإنشاء نظام ضريبي عادل على مكاسب رأس المال، التي تتحقق نتيجة التصرف السريع في الأصول، مع منح ما يقارب الإعفاء الضريبي للحيازات طويلة الأجل، من شأنه أن يحد بشكل ملحوظ من الاستثمارات غير الاقتصادية".
وأكد فابيو بلاسميث أن تغير قواعد المحاسبة بحيث يصبح التدفق النقدي أكثر أهمية من ربحية السهم استراتيجية أخرى من شأنها أن تقلل بشكل كبير من اتجاه صغار المستثمرين إلى المضاربة، إذ سيساعد ذلك على ضمان القيمة الأساسية للأصل بحيث تدعم عوائد الأوراق المالية الاستثمارات القائمة".

الأكثر قراءة