دروس مجانية لكنها ثمينة

الحياة مدرسة ضخمة متنوعة في الخبرات والتجارب والأحداث التي يمر بها الأفراد والمجتمعات، وبعض هذه الأحداث والتجارب ذات قيمة ثمينة في حياة الأفراد والمجتمعات، إلا أن البعض لا يستثمر الدروس الناجمة عنها، إما لعدم الشعور بجدواها، أو الوقوع تحت تأثير طريقة تفكير متبلدة، فاقدة للمرونة، عاجزة عن التفكير الاستراتيجي الذي ينظر للأحداث الإيجابية والسلبية باعتبارها فرصا تبنى عليها الخطط المستقبلية.
الحرب الروسية - الأوكرانية في أسبابها، ونتائجها، وكل ما يصاحبها من مناورات سياسية، ومواقف عالمية تباينت بين التأييد لهذا الطرف أو ذاك، تمثل نموذجا تحليليا نكشف من خلاله الدروس الواجب استخلاصها، والاستفادة منها، ولعل البدء بالدرس الأول يكشف أن المخاوف على مصالح الدول وسيادتها والاحتياط من مفاجآت الزمن كانت سببا رئيسا أعلنت روسيا عنه خوفا من أن تتحول أوكرانيا إلى نقطة تهديد لأمنها، فيما لو أصبحت عضوا في حلف الناتو، كما أضافت أسبابا أخرى تمثلت في منع السكان الروس المقيمين في أوكرانيا من استخدام اللغة الروسية، ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية بسبب الاختلاف المذهبي بين الدولتين. من الأسباب أيضا وجود روس في شرق أوكرانيا يسعون للاستقلال عنها، وتأسيس جمهوريتين مواليتين لروسيا، ولذا فإصرار أوكرانيا على الانضمام إلى حلف الناتو مثل سببا إضافيا للحرب.
الحرب كما وصفها زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
ليست نزهة، بل لها ويلاتها، وآثارها الإنسانية، والاقتصادية، حيث أرقام القتلى والجرحى، كما يذكر الطرفان، بعشرات الآلاف، كما أن أعداد النازحين والمهاجرين للدول الأخرى يقدر بمئات الآلاف، ولا ننسى في هذا المقام درسا آخر يتمثل في اعتماد الكذب لإضعاف معنويات العدو، وكسب تعاطف الآخرين، سواء الأقربين، أو الأبعدين، وهذا ما حدث من الغرب، أوروبا وأمريكا، حيث فتحت الحدود للمهاجرين الأوكرانيين، واستنفر السياسيون هجومهم على بوتين وروسيا، كما استنفرت المنظمات الدولية وقوفا مع أوكرانيا باعتبارها ضحية عدوان غاشم، ورافقت هذا قرارات اقتصادية ومالية على شكل عقوبات لروسيا، ودعم مالي وعسكري على شكل أسلحة ومعلومات استخباراتية لأوكرانيا، ومقاطعة الأنشطة الرياضية الروسية، وإلغاء عضويتها في المنظمات الرياضية الدولية، ليتساءل المراقب الخارجي عن سبب التحول من مبدأ عدم الخلط بين الرياضة والسياسة.
مصادرة أموال، وممتلكات، ويخوت روس مقيمين في أوروبا عقوبة لوطنهم، ما يعني عدم الثقة بالأنظمة المحلية للدول، والقوانين الدولية، ولا الاتفاقات الثنائية بين الدول التي تتغير وتطبق بصورة انتقائية.
درس بليغ آخر يتمثل في التعامل العنصري البغيض، ليس من قبل العاملين في الميدان في محطات المواصلات، أو على الحدود فحسب، حيث يتم فرز الناس إلى اوكرانيين مرحب بهم، وغيرهم غير مرحب بهم، لعرقهم، ولونهم، ودينهم، بل صرح رؤساء وزراء، ووزراء، بأن الأوكرانيين مثلنا، وليسوا سوريين، أو عراقيين، أو أفغانا، وهذا درس بليغ في كذب شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها الدول الغربية ومنظماتها الخادمة لها في وجه من يختلف معهم من الدول.
استدعاء الخلفية الدينية كمبرر للحرب، وعامل قوة معنوي استخدمه بوتين في تبريره الحرب، ووظفه زيلينسكي الرئيس الأوكراني عند مخاطبته أعضاء الكنيست، وعند مخاطبة البرلمانين الإيطالي والألماني، والكونجرس الأمريكي، بل دعوة يهود العالم للوقوف مع أوكرانيا، وما من شك أن العامل الروحي له دوره في استنفار من هبوا للقتال دفاعا عن أوكرانيا من أوروبا وأمريكا، ليشكل هذا انقلابا في التفكير الغربي الذي يعيب على العرب والمسلمين دعم قضايا أمتهم.
امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية والناعمة يمثل عامل حسم في ظروف الحروب، إذ هدد بوتين باستخدام السلاح النووي، فيما لو فكر حلف الناتو التدخل عسكريا، ولعل وجود لوحة أزرار السلاح في اجتماعه بمستشاريه يمثل رسالة واضحة للغرب الذي اتحدت جهوده في وجه روسيا، وفي تخلي أوكرانيا عام 1994 عن سلاحها النووي، وتسليمها روسيا ثقة بوعود أمريكا الدفاع عنها يمثل درسا قويا لأوكرانيا التي تخلت عن قوتها، وللدول المتراخية في امتلاك القوة.
أما القوة الاقتصادية فتمثلت في مقاطعة بعض المنتجات الروسية، وعقوبات بحق أفراد ومؤسسات قريبة من الصناعة العسكرية، إلا أن ورقة الغاز المصدر لأوروبا والبالغة مائتي مليار طن متر مكعب سنويا تمثل عامل ضغط على الحلفاء الغربيين حفاظا على مصالحهم المعتمدة بشكل رئيس؛ تدفئة، وصناعة، وزراعة، على الغاز الروسي، أما الآثار الاقتصادية على المستوى العالمي، فتتمثل في الحديث عن إمدادات القمح، حيث الإنتاج الوفير لأوكرانيا التي تمد كثيرا من الدول بإنتاجها.
القوة الناعمة ممثلة في الإعلام بكل أنواعه أسهمت في تغيير المواقف الشعبية.
الحرب بقسوتها، وآثارها المدمرة أينما وجدت فيها من الدروس والعبر لمن يجيد قراءة الأحداث، فهل نسعى إلى ذلك بدل الوقوف متفرجين في هذا العالم القاسي الذي تخلى عن إنسانيته؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي