في الحياة البسيطة .. المرء بحاجة إلى مفاتيح التشغيل والإيقاف

في الحياة البسيطة .. المرء بحاجة إلى مفاتيح التشغيل والإيقاف
من كبريات العالم إلى صغريات الذات.
في الحياة البسيطة .. المرء بحاجة إلى مفاتيح التشغيل والإيقاف
شونميو ماسونو الكاتب الياباني

تبدو الحاجة ماسة، في عالم غارق في أزمات لا تنتهي، إلى الاستماع لدعاة أسلوب أو فن العيش البسيط، بعد محاصرة الثورة الرقمية لما تركته الثورة الصناعية من مباهج الحياة، فإيقاع الحياة المعاصرة في تسارع بما يوفره من فرص وإمكانات غير مسبوقة، لكن وقعها يبقى محدودا في حياة الإنسان. فالمؤشرات تفيد بأن وفرة العمل وارتفاع الدخل وزيادة الاستهلاك... لا تؤثر في منسوب السعادة، ولا في الشعور بالرضا والامتنان لدى الإنسان المعاصر.
ما أعاد إلى واجهة الاهتمام، بقوة كبيرة، دعوات استهوت كثيرين عبر القارات، تطالب بالعودة إلى مبادئ ما قبل الحقبة الصناعية. لا يؤسس أنصار "الحياة البسيطة" لمذهب جديد بقدر ما يبثون الروح في فلسفة "فن العيش" الممتدة عبر تاريخ الفلسفة الطويل، فسؤال البحث عن ممكنات عيش أفضل، حضر باستمرار في مسار ومسيرة الفلسفة، منذ بواكيرها مع أفلاطون والرومي وسبينوزا وشوبنهاور ونيتشه وسيوران... من خلال رحلة البحث عن حياة بأقل قدر ممكن من الشقاء والألم، حياة نتصالح فيها مع قدرنا الخاص، حياة نكون فيها أنفسنا لا ما يريده الآخرون، حياة نصنع فيها المتعة بأقل الأشياء.
حضرت هذه الفكرة بقوة في الأديان، فقد تتضمن التقاليد الدينية والروحية تعاليم تشجع نمط العيش البسيط، فتعاليم يسوع في الكتاب المقدس شجعت الحواريين الذين صحبوه في رحلته على أن يتركوا وراءهم الطعام والحقائب والمال. وفي الإسلام نصوص كثيرة تحث المسلمين على منهج الوسطية والاعتدال في مناحي الحياة كافة، وكانت سيرة الرسول الأكرم حبلى بوقائع عن تجسد هذه الفلسفة في الحياة.
لم يسلم الاهتمام بهذه الفلسفة، في أوساط جيل الألفية، من تداعيات عصر التكنولوجيا الرقمية التي قولبت هذه الحياة في صور، وتنميطها في كوخ صغير في بقعة نائية، تحيط به طبيعة غناءة، بعيدا عن ضجيج العالم، كما لو أن هذه المشاهد هي التجسيد الأمثل للحياة البسيطة. هكذا انتشرت بسرعة نوستالجيا اكتشاف العالم ما قبل الاستهلاكي، وصارت خيار الرجوع إلى الطبيعة، حيث كان الإنسان أول الأمر، عودة إلى البساطة القديمة المفقودة، وصار العيش بأسلوب بسيط بقرب الطبيعة مرادفا للإنسان الجيد والأكثر سعادة.
يخل هذا الاختزال بفلسفة "فن العيش"، بشكل كبير، لأن البساطة في التاريخ البشري لم تكن خيارا في بعض الأحيان، بل ضرورة ملحة تحولت مع مرور الزمن إلى فضيلة أخلاقية. قبل أن يقلب ظهور الرأسمالية كل شيء، بإقامة مجتمع استهلاكي أساسه نظام ملتزم بالنمو المستمر، ما يجعل الدعوة إلى الحياة البسيطة، وفق القالب الرائج، أمرا عصيا على التحقق. فلا يستطيع أي فرد اليوم أن يختار الانعزال، في أي بقعة على وجه الأرض، بعيدا عن النظام الاقتصادي أو الاجتماعي القائم.
لكن هذا لا ينبغي أن يعدم أي فرصة في السعي نحو فن الحياة البسيطة، هذا ما يدعونا إليه الكاتب شونميو ماسونو، كبير رجال الدين في معبد زن الياباني، في كتابه الملهم "فن الحياة البسيطة" (2019)، الذي يقدم مائة عادة لحياة أكثر هدوءا وسعادة، بقوله "إذا كان العالم لا يسير على النحو الذي تريده، فلعل الأجدر بك أن تغير نفسك. بعدها، وأيا كان العالم الذي تلاقيه، فستجد نفسك تتحرك فيه بسهولة وأريحية".
قد يبدو عنوان الكتاب لكثيرين ساذجا وسطحيا، غايته دغدغة مشاعر إنسان الحداثة المأزوم. بيد أن الحقيقة عكس ذلك تماما، لأن متن الكتاب نتاج تجربة حياة، قوامها عقود من العيش والممارسة الحياتية لتلك العادات. إنه بتعبير الكاتب معاذ بني عامر "انتقال من كبريات العالم إلى صغريات الذات، أو انتقال من ناطحات السحاب إلى الحصى الصغيرة، فالبسيط بمعناه الفلسفي العميق، هو ما لا يقبل القسمة على شيء، أي أنه مكتف بذاته".
يمثل الأسلوب الشذري في الكتاب خلاصة تجربة كبيرة في الحياة، على المستويين الذهني والواقعي، وتبادلا للأدوار بين المقولات الكبرى، كما وقرت في الأذهان والتفاصيل الصغرى كما تتجلى في الأعيان. وليس من المبالغة القول إن الكتاب "كنز دفين من حكمة حياتية عميقة لكنها بسيطة" حول منهج لفن العيش البسيط من منطلق الذات "الفرد"، لا العالم "الكوخ، الجبل، الاغتراب..." كما يسوق ذلك أنصار هذا المذهب في حلته الجديدة.
تقدم عادات الكتاب المائة حكما إنسانية هائلة، عن ممكنات للعيش البسيط مركزها الذات، بتناسق وتناغم كبيرين مع المحيط. فماسونو الحكيم يخبرك بأن "السعادة تجدها عندما تعطي الأشياء وقتها"، ويدعوك إلى أن "تتخلص مما لا تحتاج إليه، سينعش هذا عقلك". وربما يصدم القراء حين يحثهم على تخصيص وقت للفراغ "انتبه لذاتك"، وذلك "بقضاء بعض الوقت بصحبة عقلك، ففي حياتنا اليومية، لا يمتلك أي منا الوقت للتفكير في لا شيء".
تعيش الإنسانية زمن التدفق المعلوماتي أو زمن السيولة، والوصف للبولندي زيجمونت باومان، ما جعل الكاتب يحذر من أن بلوغ "حالة الفراغ حيث لا تفكر في أي شيء، ليست بالحالة التي يسهل تحقيقها، حتى الرهبان يجدون صعوبة في ذلك. فالتأمل العميق المتعلق بحقيقة العالم المطلقة أو معنى الحياة ليس شيئا يمكن إنجازه أثناء الحركة، ما يجعل الفرد في أمس الحاجة إلى مفاتيح التشغيل والإيقاف".
يفوح الكتاب بحكم خالدة من أجل حياة بسيطة، بدءا من مستويات مبسطة كالتفكير في مسار الطعام الذي نتناوله، قبل أن يصل إلينا، "عندما تفكر في هذا وأنت تتناول وجباتك، لعلك تدرك كم أنت محظوظ"، مرورا بتشفير عوالم النفس بالتحذير من القلق غير الملموس، "لا تجعل الأشياء التي لم تحدث بعد تزعجك"، وصولا إلى عوالم التأمل مثل قوله "لا تطارد السحاب، فلن تدركه أبدا"، أو قوله "إذا ركزت كل انتباهك على الأسود والأبيض فسيفوتك جمال الرمادي"...
يمكن تكثيف قواعد الحياة البسيطة التي يدعونا ماسونو إلى الأخذ بها في السعي نحو تقليل الشقاء والألم والأوهام، بدءا من النظام الغذائي والصحي، وانتهاء بالنظام المعرفي والتواصلي والأخلاقي. "والحرص على المصالحة المطلقة مع الذات، ببسط سلطان إرادتي على نفسي، والحرص على صناعة المتعة بأقل الأشياء، فالإنسان هو الثابت والباقي توابع ولواحق، الشروق، البحر، المشي، القراءة...".

الأكثر قراءة