التأميم والرأسمالية وفتح الأسواق

بقدر ما تتسبب فيه الحرب من دمار وخسائر هائلة، فإنها في جانب منها - ولو صغيرا - تفتح فرصا جديدة، والاقتصاد أول المتضررين من الحرب، وهو أول الناجين منها، ذلك أن الدول المتحاربة تبدأ الحرب عادة بضرب الأهداف الاقتصادية ثم تبدأ بقطع سلاسل الإمداد، كل ذلك من أجل الضغط على الشعوب لتستسلم، أو من أجل منع العدو من شراء الأسلحة أو تصنيعها.

وهذه الحرب الاقتصادية كانت تأخذ شكل القصف الجوي للمخازن والمستودعات والطرق والشركات، وأيضا الحرب في البحر وتهديد السفن.

لكن منذ نهاية انهيار الاتحاد السوفياتي مع بداية عقد التسعينيات في القرن الماضي، ومع تنامي الشعور باستبعاد حدوث حرب كونية جديدة، انطلقت الدعوات نحو نظام عالمي جديد على أساس العولمة، تفتح فيه الأسواق وتصبح المنافسة سيدة الموقف، مع رفع الدعم وإزالة الحواجز، وكان ذلك أكبر تعبير على نهاية الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية، فدخلت المصانع الأوروبية وشركات الغرب موسكو آمنة، ورحب بها الشعب الروسي أملا في الوظائف والتشغيل، والسلع ذات الجودة، وانتقلت المصانع الأوروبية إلى الصين أملا في تقنيات متطورة رخيصة. ولو كانت الحرب الباردة قائمة لما تصور أحد أن تمتلك الشركات الأوروبية كل هذه الشجاعة لتقدم على مثل هذه الخطوات.

واليوم وفي الوقت الذي ظن فيه العالم أنه مترابط بصورة تمنع حدوث حرب عالمية، ها هي الحرب تشتعل، وكالعادة فإن الاقتصاد أول المتضررين.

فمع العقوبات الاقتصادية التي أعلنها قادة حزب الناتو، على رأسهم الولايات المتحدة، دعما لأوكرانيا، بدأ الاقتصاد العالمي يعاني بسبب ارتفاع أسعار النفط من جانب، وأسعار المواد الغذائية من جانب آخر، مع مشكلات في سلاسل الإمداد وتراجع كبير في الروبل الروسي، وهناك احتمال أن تتخلف روسيا عن سداد ديونها بحسب "الفرنسية"، واحتمال فقدان مئات آلاف الوظائف وأزمة اقتصادية عميقة.

أمام هذا المشهد العسكري والاقتصادي والعقوبات وتبادل التهديدات فقد قررت عديد من الشركات الأجنبية العاملة في روسيا تعليق أعمالها هناك، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية، حيث إن هذا الإغلاق يعني توقف العمل والتوظيف وارتفاع البطالة وبالتالي أزمة كساد، وإفلاس، وخروج شركات أخرى في حلقة مفرغة.

فالمدير التنفيذي للجنة المعنية بالاقتصاد الألماني في شرق أوروبا، يقول "إن ألمانيا وحدها لديها أكثر من 3650 شركة تتحمل المسؤولية عن نحو 280 ألف عامل". وأعلن عدد كبير من الشركات الأجنبية انسحابها من روسيا أو على الأقل تقليص نشاطها أو تعليقه مؤقتا، من بينها "بريتش بتروليوم" و"شل" و"ماكدونالدز" و"إتش آند إم" و"كوكا كولا".

ونظرا إلى أن هذا التوقف مؤثر جدا في الاقتصاد الروسي فقد هددت روسيا باتخاذ إجراءات مضادة، من مثل بيع هذه الشركات لمستثمرين آخرين، أو وضعها تحت التصرف القضائي، مثل الشركات التي تخضع للتنظيم المالي، أو تأميمها إذا لزم الأمر، وروسيا تتخذ هذا الموقف من جانب قانوني بحت، فهذه الشركات أتت إلى روسيا بطوعها، وقامت بفتح أعمالها وفقا للقانون الروسي للأعمال، والعمل، ولذلك فإنها ملزمة بكل ما فيه، ومن ذلك حقوق العمال ومستحقاتهم، وكذلك حقوق الدائنين، وحقوق المشترين، وحملة الأسهم، ولهذا فرضت النيابة العامة في روسيا "رقابة صارمة" على الشركات الأجنبية التي تعلن تعليق أنشطتها كي تحقق "احترام قانون العمل وشروط عقود العمل ودفع الأجور وتسديد الالتزامات التعاقدية للمقاولين وللاتحاد الروسي"، وهذا معناه أن هذه الشركات ستكون في موقف الشركات المفلسة.

وكما وصف الرئيس التنفيذي لاتحاد الشركات الألمانية المتوسطة إعلان الحكومة الروسية بأنه "إشهار إفلاس صوري وفي إطار إجراء إعسار مقتضب"، وقال "إنه أصابنا كاتحاد شركات بقلق بالغ"، فألمانيا التي لديها أكثر من 3600 شركة قد تعرض للبيع لمستثمرين آخرين أو توضع للمصفي القضائي، أو أن تقوم الدولة بذلك إذا لم يكن الأمر داخلا تحت هذه الأطر، بهذا فإن حجة روسيا واضحة أمام هذه الشركات، وهي تطبق قوانينها لحماية اقتصادها بعيدا عن تداعيات الحرب، لكن الشركات تقول إن هذا التوقف ليس اختياريا، بل هو بسبب الحرب التي شنتها روسيا، وبخلاف الشركات التي توقفت تأثرا بموجة من التعاطف لدى الرأي العام، فإن كثيرا من الشركات الأجنبية توقفت أو قررت الانسحاب بسبب تأثير العقوبات المباشر فيها، ما سيجعل بقاءها مستحيلا، وهذا موقف له ما يبرره فعليا، فمن الصعب العمل وخطوط الإمداد معلقة، والمواد الخام شحيحة، فالأمر يتطلب الترشيد الاقتصادي حتى نهاية الحرب.

هذا المشهد الاقتصادي يعيد التاريخ الاقتصادي إلى الوراء فعليا، وكل ما تم بناؤه في عقود طويلة لمنح الثقة وفتح الأسواق قد يذهب بلا عودة، ذلك على الرغم من تأكيد الرئيس الروسي أن روسيا تبقى "منفتحة" على الأطراف الاقتصادية الأجنبية، مشددا على ضرورة "حماية" حقوقهم، لكن كثيرا من المراقبين والمحللين حول العالم يرون أن إجراءات مثل التأميم، علامة العودة إلى الحقبة السوفياتية، خاصة مع تناقل عبارات للرئيس الروسي التي قال فيها "إن الاتحاد السوفياتي عاش في ظروف عقوبات وتطور وحقق نجاحات هائلة، وإن الروس سيتغلبون على الصعوبات".
وهنا يقول أحد أكبر رجال الأعمال في روسيا "إن هذا سيعيدنا مائة عام إلى الوراء إلى 1917 عام الثورة البلشفية".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي