الفائدة الصفرية .. التغيير ضرورة

في الوقت الذي أقدمت فيه البنوك المركزية الرئيسة منذ مطلع العام الحالي على رفع معدلات الفائدة، حافظ البنك المركزي الأوروبي على مستوياته على أمل أن يواصل دعم انتعاش اقتصاد منطقة اليورو، بعد فترة عصيبة مر بها الاقتصاد العالمي جراء الآثار التي تركتها جائحة كورونا على الساحة. حتى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" غيّر مطلع العام الحالي سياساته التقليدية بالإبقاء على معدل الفائدة منخفضا، بدأ برفعها وإن بمستويات طفيفة، لكنها تبقى مؤثرة في الساحتين المحلية والعالمية.
و"المركزي الأمريكي" تعهد بأن يقوم بزيادة الفائدة خلال العام الجاري لأسباب باتت ملحة تتعلق بارتفاع خطير لمستويات التضخم، كما هو الحال في بقية الاقتصادات المتقدمة.
وعلى ساحة اليورو، يبدو واضحا أن البنك المركزي فيها لم يستطع تحمل الارتفاعات المتلاحقة لمستويات الفائدة التي بلغت الشهر الماضي 5.8 في المائة، كأعلى نسبة منذ إطلاق اليورو عملة أوروبية موحدة. و"المركزي" كغيره من البنوك المركزية الأخرى، أقدم في أعقاب حدوث ركود اقتصادي بفعل وباء كورونا على شراء السندات عبر برنامج إنقاذ اقتصادي بلغت قيمته أكثر من تريليوني دولار، وواصل البنك شراء شهريا للسندات لتعزيز هذا البرنامج. فكريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي كانت حتى نهاية العام الماضي تعتقد أنه لا بد من الإبقاء على برامج التيسير المالي لأطول فترة ممكنة، من أجل امتصاص كل الآثار التي تركتها كورونا، وتحقيق النمو وتمكين التعافي الاقتصادي.
ومع اندلاع الأزمة الأوكرانية - الروسية والحرب الدائرة بين البلدين، تعرضت الاقتصادات المتقدمة، وأغلبيتها في الساحة الأوروبية إلى ارتفاعات جديدة للتضخم، وذلك مع زيادة أسعار السلع والطاقة وحتى الغذاء. كما تعرضت البورصات الأوروبية الرئيسة لهزات في الأسابيع القليلة الماضية، بفعل الضغوط الاقتصادية الناجمة عن هذه الحرب، فضلا عن وضوح الرؤية تماما على صعيد الاستراتيجية الاقتصادية الأوروبية طويلة الأمد. كان لا بد لـ"المركزي الأوروبي" أن يغير من سياساته التقليدية المعتمدة على فائدة أقرب للصفر. فضغوط التضخم ترتفع وباتت تشكل مخاطرة اجتماعية كبيرة، ما كان سببا رئيسا لتوجهات البنك بتخفيض برنامج شراء السندات بشكل أسرع مما كان متوقعا أو مخططا له. فالساحة لا تتحمل بعد الآن تضخما تحمل معه مخاطر في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأوروبي بشكل عام ضعفا واضحا.
الفارق كبير بين تضخم واقعي بلغ اليوم 5.8 في المائة في منطقة اليورو، وبين التضخم المستهدف كحد أعلى وضعه "المركزي الأوروبي" منذ تأسيسه عند 2 في المائة. وعلى الرغم من أن التعافي الاقتصادي يتصدر أولويات السياسة الاقتصادية لمنطقة اليورو، فإن مستويات التضخم المرتفعة تؤثر عمليا في مسار التعافي ذاته. ومن هنا، كان لا بد لواضعي السياسة النقدية لهذه المنطقة من إعادة جدولة برنامج شراء السندات، حيث من المتوقع أن ينتهي في الربع الثالث من العام الجاري. حتى إن بعض الأصوات المعارضة لـ"تساهل" كريستين لاجارد في موضوع التضخم، حملها مسؤولية عدم إقرارها المبكر للخطر الذي يجلبه التضخم على الساحة عموما. والواقع أن هذا ليس غريبا على هذا البنك، الذي يعد الأكثر تيسيرا للسياسة النقدية في العالم.
ليس هناك أي منفذ أمام "المركزي الأوروبي" سوى الإقدام على رفع أسعار الفائدة، والتخلص تدريجيا من استراتيجية باتت تعرف بـ"الفائدة الصفرية". علما بأن القضاء على التضخم ليس يسيرا على الإطلاق، وغالبا ما تكون السياسات التي تستهدفه تركز على كبح جماحه، خصوصا في فترة عصيبة يمر بها الاقتصاد العالمي بعد وباء شمل الكرة الأرضية، وحرب في قلب القارة الأوروبية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي