سياسات الطاقة الأوروبية أمام مفترق طرق .. خطط التخلص من الفحم تذهب أدراج الرياح
بصرف النظر عن مدى واقعية المخاوف الأوروبية، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيلجأ إلى إمدادات الطاقة من نفط وغاز كسلاح سياسي واقتصادي في الحرب الأوكرانية، وأن موسكو تنتظر الوقت الملائم لاستخدامه كورقة أخيرة لقلب الطاولة على خصومها الدوليين، إلا أن القادة الأوروبيين يعتقدون أن الوقت قد حان للقيام بعملية تقييم حقيقية لسياستهم في مجال الطاقة.
وعلى الرغم من أن عملية التقييم تلك كان يفترض أن تتم قبل وقت طويل من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن الحرب زادت من الضغوط التي يتعرض لها زعماء أوروبا للعمل على تغيير سياساتهم للطاقة.
لكن مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتواصل المخاوف من أن تتخذ روسيا تدابير عقابية شديدة تجاه أوروبا، وأبرزها حرمانها من مصادر الطاقة، وحتى تستطيع أوروبا الاعتماد على الطاقة المتجددة لسد احتياجاتها، وهو ما يبدو خيارا يصعب تحقيقه في المديين القريب أو المتوسط، فإن الخيار الرئيس على المدى القريب بالنسبة إلى الأوروبيين سيتضمن الابتعاد عن استهلاك الغاز في قطاع الطاقة، وزيادة استخدام الفحم أو النفط داخل محطات الطاقة الحالية التي تعمل بالغاز، بحيث بات الحديث الآن وبشكل واضح من قبل كبار المسؤولين في قطاع الطاقة الأوروبي، أن على شركات القطاع الخاص التي لديها محطات تعمل بالفحم وأغلقتها أخيرا أو من المقرر إغلاقها أن يعاد تشغيلها من جديد وبسرعة.
يعكس الارتفاع في سعر الفحم الحراري إلى مستويات قياسية بلغت 446 دولارا للطن المتري، أن جهود الحكومات الأوروبية لأعوام طويلة للتخلص من الفحم كمصدر للطاقة بسبب الدور السلبي الذي يلعبه في تلوث البيئة، في طريقها لأن تذهب أدراج الرياح.
فما إن بدأت الصواريخ والمدفعية الروسية تنهمر على أوكرانيا، إلا وتقدمت بولندا بطلب رسمي إلى أستراليا لتوفير احتياجاتها من الفحم، نظرا إلى اعتمادها على الفحم الروسي، بينما لم يتردد ماريو دراجي رئيس الوزراء الإيطالي في الدعوة إلى إحياء محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بسبب مخاوفه من أن تقوم روسيا بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عن بلاده، بينما أعلنت ألمانيا أنها ستطيل عمر محطات الفحم التي كان من المقرر إغلاقها بحلول 2030، وذلك بعد أيام من تعليقها خط أنابيب نورد ستريم2 الذي كان من شأنه أن يضاعف حجم الغاز الذي تستورده مباشرة من روسيا.
من جهته، قال لـ"الاقتصادية" جي كا إيان الخبير في مجال الطاقة، "إن استخدام أوروبا الموسع للفحم في المرحلة المقبلة هو الثمن الذي ستدفعه نتيجة تضامنها مع أوكرانيا، لكن الصعوبة تكمن في أن روسيا هي أيضا مورد رئيس للفحم الحراري إلى أوروبا، لكن الفحم ليس جزءا من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وروسيا تزود أوروبا بنحو 70 في المائة من وارداتها من الفحم الحراري، وكذلك بنسبة ملموسة من الفحم المعدني الذي يستخدم في صناعة الصلب، الذي ارتفعت أسعاره إلى مستوى قياسي أيضا".
ويضيف "واحدة من المشكلات الرئيسة التي تواجه أوروبا أن الفحم الروسي عالي الطاقة، ولا يتوافر في مناطق كثيرة في العالم، وعادة ما تدير شركات التعدين عملياتها بالقرب من السعة الكاملة، ما يعني أنها لن تستطيع إنتاج مزيد من الفحم بسرعة".
تشير تقديرات الخبراء إلى أن أوروبا قد تخفض وارداتها من الغاز الطبيعي الروسي بأكثر من الثلث في غضون عام، لكن الارتفاع الكبير في أسعار الفحم وعدم قدرة أوروبا على استبدال روسيا بين ليلة وضحاها، يعني أن عديدا من الخطط الأوروبية لتقليص اعتمادها على روسيا في إمدادها باحتياجاتها من الطاقة، قد تتطلب فترة زمنية أطول مما هو مرغوب فيه أو مخطط له.
بدورها، تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة إيلودي سميث أستاذة التجارة الدولية في جامعة ليدز، "الفترة المقبلة ستشهد سعيا أوروبيا لتنويع مصادر مشترياته من الفحم، فبينما ستواصل بعض الدول استيراد الفحم من روسيا، فإن دولا أخرى ستعمل على خفض وارداتها من الفحم الروسي، بينما ستعمل دول أوروبية أخرى على البحث عن بديل تام للفحم الروسي سواء من أستراليا أو جنوب إفريقيا أو كولومبيا، لكن هذا التنوع لا ينفي أن أسعار الفحم ستواصل الارتفاع".
وتؤكد أن الأزمة الحالية في مجال الفحم المتمثلة في الارتفاع الشديد في الأسعار تعود إلى نقص الإمدادات، وهذا ناتج جزئيا عن نقص الاستثمار في إنتاج الفحم لأعوام طويلة، نتيجة السعي الدولي للتخلص من الوقود التقليدي، لكن حتى مع ارتفاع الأسعار حاليا فإن هناك كثيرا من التردد في توجيه الاستثمارات إلى مناجم الفحم، حيث القناعة السائدة هي أن الزيادة الراهنة في الأسعار زيادة مؤقتة، وعدم اليقين لا يزال يهيمن على الأسواق.
لكن بعض الخبراء يعتقدون أن الارتفاع الراهن في أسعار الوقود التقليدي والفحم ربما يمثل عنصرا ضاغطا على الحكومات بما يسرع من جهودها للتحول إلى تغيير سياسات الطاقة، خاصة أن الاعتقاد السائد حاليا لدى خبراء الطاقة الأوروبيين هو أن أزمة الغاز ستستمر حتى 2025.
من جانبه يتوقع كيليفورد كريس الاستشاري السابق في وكالة الطاقة الدولية، استمرار الضغوط الراهنة في سوق الطاقة العالمية لبعض الوقت، ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن خصوم روسيا، تحديدا الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، سيدعمون نظام طاقة جديدا، ضد التهديدات الخارجية، لن يكون بالضرورة أرخص في مراحله الأولى، لكنه سيكون فعالا على الأمد الطويل".