حرب الطيران المدني .. لكمة جديدة للصناعة يصل صداها إلى شركات التأجير والتأمين
كان قطاع الطيران الروسي هدفا مبكرا للعقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا، عقب تدخلها العسكري في أوكرانيا. ففي الحزمة الأولى من العقوبات التي بدأت مع دخول القوات الروسية أوكرانيا، جرى حظر بيع الطائرات وقطع الغيار لشركات الطيران الروسية، ومع تصاعد الأعمال القتالية نمت الخطوة واتخذ مزيد من الإجراءات ضد روسيا في مجال الطيران، فحظرت جميع الطائرات الروسية سواء التجارية أو الخاصة من التحليق في المجال الجوي الأوروبي والأمريكي والكندي، ما دفع طائرات روسيا إلى الاستدارة في الجو وعدم إكمال رحلتها والعودة إلى أرض الوطن.
ردا على ذلك حظرت روسيا شركات طيران أوروبية وأمريكية وكندية من التحليق في مجالها الجوي، وأعلنت هيئة الطيران المدني الروسية رسميا أنها أغلقت مجالها الجوي أمام شركات الطيران لما لا يقل عن 37 دولة، بينما ظل المجال الجوي فوق أوكرانيا ومولدوفا وأجزاء من بيلاروسيا مغلقا.
حرب الطيران المدني تلك ستترك بصماتها على المصنعين والمستأجرين والركاب، بل بات من المؤكد الآن أن أصداء العقوبات الغربية على روسيا، سيتردد صداها حتما في صناعة الطيران ذاتها، خاصة أن قطاع الطيران كان واحدا من أبرز القطاعات التي تضررت بشدة خلال جائحة كورونا، وما إن بدأ القطاع في استعادة عافيته هذا العام، إلا وجاءت العقوبات المفروضة على روسيا أخيرا، لتوجه إلى الصناعة لكمة أخرى جديدة، قد تفاقم الضرر والخسائر التي تعرضت لها بسبب وباء كورونا.
ربما تكون أول المشكلات التي ستظهر نتيجة الحظر والحظر المضاد على استخدام المجال الجوي بين روسيا وخصومها، هي إطالة زمن الرحلات المتجهة من أوروبا إلى آسيا بشكل كبير، وبالتالي بات تشغيل معظم رحلات الركاب والبضائع إلى آسيا غير اقتصادي أو تنافسي، فأسرع مسار للرحلات الجوية بين أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ هو الطيران عبر سيبيريا.
وخلال العام الماضي مرت 195 ألف رحلة جوية تجارية عبر المجال الجوي الروسي، وكان الاتحاد السوفياتي السابق وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أبقى جزءا كبيرا من مجاله الجوي مغلقا أمام شركات الطيران الغربية، ولم يتم فتح المجال الجوي لسيبيريا أمام شركات الطيران الغربية والآسيوية إلا خلال سبعينيات القرن الماضي بعد ذوبان الجليد في العلاقات السوفياتية - الغربية.
وعلى سبيل المثال، سيؤدي إغلاق المجال الجوي الروسي أمام طائرات دول الاتحاد الأوروبي إلى زيادة أمد الرحلة من مدينة فرانكفورت الألمانية المتجهة إلى الصين بنحو 90 دقيقة، أما الرحلات من العاصمة الفنلندية هلسنكي إلى طوكيو فستضاف إليها خمس ساعات أخرى.
وألغت شركة الطيران الوطنية الفنلندية "فين إير" الرحلات الجوية إلى روسيا نتيجة العقوبات، ما أدى إلى انخفاض اسهم الشركة 21 في المائة، كما تراجعت أسهم شركات الطيران في كل من أوروبا والولايات المتحدة.
ولأن السفر بالجو لن يكون اقتصاديا في بعض الأحيان، فإن شركة فيرجن أوقفت رحلات الشحن من مطار العاصمة البريطانية لندن إلى مدينة شنغهاي الصينية.
وهنا يقول لـ"الاقتصادية" جاري لانسن الطيار السابق والاستشاري في اتحاد الطيارين الأوروبيين، إن "الأمر لا يتوقف على طول أمد الرحلة، فشركات الطيران العالمية باتت في حاجة إلى تحديد مسارات جديدة وهذا أمر شديد التعقيد، وهناك مشكلات أكثر تعقيدا بكثير تتعلق بالتفكير في كيفية إبقاء أطقم الطيران على متن الرحلة دون انتهاك للوائح المتعلقة بالحد الأقصى لساعات العمل".
وأضاف قائلا "كما أن مسارات الرحلات الطويلة يعني الحاجة إلى مزيد من الوقود، بما يتطلبه ذلك التوقف ربما في أكثر من مطار للتزود بالوقود، وهنا تبرز مشكلة التكلفة والجدوى الاقتصادية، لأن استهلاك مزيد من الوقود في ظل ارتفاع الأسعار العالمية للنفط يعني ارتفاعا شديدا في أسعار تذاكر الطيران".
وأعلنت شركة لوفتهانزا الألمانية رسميا أن الشركة ستحتاج إلى رفع أسعار التذاكر لتعويض الارتفاع في أسعار الوقود والتكاليف الأخرى.
ويتوقع الخبراء أن يؤدي هذا الارتفاع إلى انخفاض الطلب، وهذا نذير شؤم لصناعة تكافح بالفعل لتعويض الخسائر المرتبطة بوباء كورونا، إضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم في الآونة الأخيرة.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن العقوبات وجهت ضربة قاسية للغاية وإن لم تكن قاتلة تماما إلى قطاع الطيران الروسي، فقد استحوذت روسيا على 6 في المائة من طاقة الطيران الدولي في 2021.
واسفرت العقوبات الدولية عن إزالة شركة إيروفلوت أكبر شركة طيران في روسيا من نظام الحجز العالمي الذي يشغل كل موقع إلكتروني رئيس لحجز السفر، ما أدى إلى شل قدرة الشركة على بيع المقاعد، وأعلنت الشركة أنها ستعلق جميع رحلاتها الدولية تقريبا، وكان ربع مسافري الشركة البالغ عددهم 3.5 مليون مسافر في يناير الماضي سافروا على متن رحلات دولية تابعة للشركة.
يضاف إلى ذلك أن الجزء الأكبر من طائرات الركاب الروسية تصنعه شركتا بوينج وإيرباص اللتان تعملان بمحركات رولز رويس وجنرال إلكتريك، ونتيجة تلك العقوبات فلن تقدم شركات الطيران الغربية قطع الغيار أو الخدمات أو المساعدة الفنية لشركات الطيران الروسية، ولذلك عندما تواجه طائرة ركاب روسية أي نوع من المشكلات الميكانيكية أو الإلكترونية، فلن يكون هناك أي إمكانية لحصولها على قطع غيار أو المساعدة على إصلاحها، ونظرا إلى أن الطائرات تخضع لرقابة مستمرة تراوح بين الفحوصات اليومية والصيانة الثقيلة كل ستة أعوام، فإن الطيران الروسي سيواجه مشكلات حادة في توفير احتياجاته من قطع الغيار.
ومن هنا يتوقع مهندس صيانة الطائرات ال.دي ماك، أن تواجه الطائرات الروسية تحديات خطيرة ستؤدي مع مرور الوقت وصعوبة إيجاد حلول لها إلى تقلص قدرات أسطول الطيران الروسي، خاصة أنه سيتم منع شركات الطيران الروسي من شراء طائرات غربية، كما لن تتم تلبية الطلب الروسي الحالي من الطائرات الغربية، فروسيا لديها 62 طائرة تحت الطلب من شركتي بوينج وإيرباص.
وقال ماك لـ"الاقتصادية"، إن "الطائرات الروسية يمكن أن تحلق في الأجواء المحلية، طالما ظل لديها قطع غيار في المخازن، وحتى عندما يتراجع المخزون فإن روسيا لديها أسطول ضخم من الطائرات، ويمكن أن تتغلب على نقص قطع الغيار بتفكيك بعض الطائرات واستخدامها كقطع غيار، لكن عندما تغادر الطائرات الروسية الأجواء الوطنية وتهبط في دول أخرى، فإنها ستواجه مشكلات كبيرة إذا كانت في حاجة إلى صيانة، فحتى لو عثرت على قطع غيار فسيكون من العسير عليها دفع ثمنها، بسبب العقوبات المفروضة على البنوك الروسية".
مع هذا ترى لورين دونال الباحثة الاقتصادية، أن قطاع الطيران الروسي لن يتضرر بمفرده، ففي الوقت الحالي نصف أسطول الطيران التجاري الروسي تقريبا مستأجر من شركات مقرها أيرلندا، مشيرة إلى أن إجمالي عدد الطائرات التي تخدم في الأسطول الجوي الروسي يبلغ 861 طائرة، من بينها 515 طائرة مستأجرة من شركات التأجير الأجنبية وأغلبها من أيرلندا.
وتعتقد دونال أن العقوبات المفروضة على موسكو ستؤدي إلى عواقب وخيمة عليها في مجال الطيران، لكنها ستؤثر في شركات التأجير الأوروبية المتعاملة مع روسيا، إذا امتنعت موسكو عن إعادة الطائرات المستأجرة، موضحة أنه بحلول نهاية مارس الجاري من المتوقع أن يقوم المؤجرون الأوروبيون بإنهاء تأجير طائراتهم لموسكو، والمطالبة باستعادة طائراتهم وتبلغ قيمتها السوقية حاليا 12 مليار دولار وفق بعض التقديرات.
وتابعت في حديثها لـ"الاقتصادية"، أن "العقوبات المالية تعني أنه سيكون من الصعب على شركات الطيران الروسية التي تستأجر تلك الطائرات، أن تدفع المستحقات المالية للشركات التي تقوم بتأجير الطائرات لها، حتى إن ظلت روسيا قادرة على الدفع".
وفيما يتعلق بالمشكلة التي تواجه شركات تأجير الطائرات وقدرتها على استعادة طائراتها من روسيا، رجحت دونال أن موسكو لن تعيد تلك الطائرات، بدعوى عدم قدرتها على ذلك بسبب العقوبات وحظر الطيران، وقد يتطلب الأمر في مرحلة تالية إيجاد حلول عبر تخفيف تلك العقوبات لتفادي تعرض شركات تأجير الطائرات الأوروبية لخسائر ضخمة قد تصل إلى حد الإفلاس.
ودعت إلى تغيير القوانين مستقبلا، بحيث يتم خفض مخاطر التركيز، من خلال فرض نسبة محددة من إجمالي حجم أسطول أي شركة تأجير طائرات، على ألا تتجاوز تلك النسبة عند تأجير طائراتها لدولة واحدة.
والمخاوف من تعنت روسيا ورفضها إعادة الطائرات المستأجرة، قد يصيب قطاع التأمين بأضرار جسيمة، إذ ستقع المسؤولية على عاتق شركات التأمين لتعويض شركات تأجير الطائرات.
وقد يكون من المبكر حاليا وضع صورة نهائية لتأثير العقوبات المفروضة على روسيا في قطاع وصناعة الطائرات العالمية، لكن من المؤكد أن التدخل الروسي في أوكرانيا والعقوبات سيتركان تأثيرا واضحا في صناعة السفر الهشة مستقبلا.