عولمة وحرب .. إرهاصات التغيير
لم يكد الاقتصاد العالمي يتنفس الصعداء بعد إزالة معظم العقبات، التي وضعت أمامه بسبب الأزمة الصحية العالمية، إلا ويصطدم بمعضلة الحرب الروسية الأوكرانية. فقد كان من المتوقع أن يحقق الاقتصاد العالمي نموا قدره 5.9 في المائة في 2021 و4.9 في المائة في 2022، وحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، الذي يصدر عن صندوق النقد الدولي بشكل دوري، فإن التراجع في النمو يعود جزئيا إلى استمرار الانقطاعات في سلاسل الإمداد، لكن على الرغم من الانخفاض الطفيف فقد كان النمو متوقعا إلى حد بعيد، لكن يبدو أن 2022 سيخالف التوقعات بشكل جذري، فاتجاه التعافي، الذي تم تسجيله في الأشهر الماضية توقف بشكل مفاجئ، والنمو المؤمل أصبح تراجعا في التجارة العالمية بنسبة 5.6 في المائة بسبب الحرب في شرق أوروبا، كما ذكر ذلك معهد كيل الألماني للاقتصاد العالمي IfW أن هذا أكبر تراجع منذ اندلاع أزمة كورونا في ربيع 2020، أي أن الأزمة الاقتصادية عادت مرة أخرى، لكن بظروف جديدة، تعددت الأسباب والأزمة الاقتصادية واحدة. يبدو أن المشكلة الأساسية، التي يعانيها الاقتصاد العالمي هي التي كانت أعظم حلوله في يوما ما، ألا وهي العولمة. فالعولمة، التي كانت مفتاح العالم نحو إصلاحات جمة تنهي احتكار الدول الغنية للتقنيات والمعرفة، وترفع عن كاهل الشركات العالمية قيود التجارة وعوائق الدخول، والدعم والجمارك، وتصبح المنافسة سيدة الموقف مع شفافية أفضل، لكن هذا الوضع، الذي بدأ يوما وكأنه الجنة الاقتصادية الموعودة يظهر اليوم، وكأنه نارها، فالشركات التي تسابقت يوما لنقل مصانعها إلى دول بعيدة، أملا في عمال أكثر برواتب أقل، تعاني اليوم هشاشة سلاسل الإمداد، التي أصبحت تعوق العمل، وتوقف الإنتاج، وبعد أن كانت المصانع في أوروبا قريبة جدا من الأسواق أصبحت الآن تمر عبر المحيطات، التي تتعطل ملاحتها كلما اندلعت أزمة في أي مكان، وكلما ترابط الاقتصاد العالمي أكثر وتشعبت وتوزعت الموارد، وتباعدت المصانع، أصبحت حالة عدم اليقين أكبر وأكثر استدامة.
فكما ذكر معهد كيل الألماني للاقتصاد العالمي أنه على الرغم من أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا لم يتصاعد إلا في الأسبوع الأخير من شباط (فبراير)، فإن حالة عدم اليقين ستؤثر فيما يبدو الآن بشكل مستدام على التجارة، وصدور مثل هذا التقرير من معهد يقيس اقتصاد إحدى كبرى الدول الصناعية في العالم، يأتي بعد تباطؤ التجارة الخارجية الألمانية في كانون الثاني (يناير) الماضي، ومن المرجح أن تنخفض الواردات بشكل حاد، مقارنة بشهر كانون الثاني (يناير) الماضي "سالب 3.9 في المائة"، ومن المرجح أيضا أن تنخفض الصادرات "سالب 3.8 في المائة" وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، هناك أيضا إشارات على انخفاض الواردات "سالب 1.6 في المائة" والصادرات "سالب 2.8 في المائة"، وهناك تقارير صحافية تشير إلى أن حركة الشحن البحري من منطقة البحر الأسود تشهد ارتباكا شديدا بسبب الحرب، وهو ممر تجاري مهم فكل هذا التراجع الحاد في شهر واحد وفي حركة التجارة يشير إلى أن أي تعطل في سلاسل الإمداد لأي سبب يقود إلى تراجعات حادة في مؤشرات الاقتصاد العالمي، فالحرب أفرزت عقوبات اقتصادية كبيرة على موسكو، ما قاد لانخفاض تجارة روسيا مع العالم 11.8 في المائة، مع تراجع شحن البضائع في ميناء سانت بطرسبرج وحده خلال الشهر الماضي 17 في المائة. وقد أدت العقوبات المفروضة على روسيا إلى عزلها لدرجة لم يسبق لها مثيل في مثل هذا الاقتصاد الضخم، هذا الوضع المتأزم لانقطاع سلاسل الإمداد دعا الشركات في شرق آسيا إلى التفكير في نقل مصانعها في الاتجاه المعاكس هذه المرة أي نحو الاتحاد الأوروبي لتفادي الأزمات.
من اللافت للانتباه أن هذا المشهد المرتبك جدا في سلاسل الإمداد، وتداعيات الحرب يقود اليوم إلى استقطابات اقتصادية عالمية حادة قد ترسم شكل المستقبل التجاري في العالم، فمع شدة العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب على روسيا، فإن تجارة الصين مع روسيا سجلت نموا بنحو 40 في المائة مطلع العام الجاري، وهو أعلى معدل في أكثر من عقد، كما تشير التقارير إلى أن هذا الارتفاع في معدل النمو هو الأعلى لأول شهرين منذ 2010. وكما أن عددا من شركات شرق آسيا تفكر في نقل مصانعها للغرب لتفادي أزمات سلاسل الإمداد، ودول أوروبا تتعاضد معا لتنفيذ الحظر والعقوبات الاقتصادية على روسيا، فإن هناك في المقابل محورا اقتصاديا يتشكل أيضا بين الصين وروسيا، وقد تنضم دول أخرى مستقبلا، والجميع يسعى لتفادي مشكلة الإمدادات العالمية لكن بمسارات مختلفة، فهناك أقطاب اقتصادية وتحالفات جديدة قد ترسم ملامح الاقتصاد العالمي، كما أشرنا، وبالتالي تغيير قواعد المنافسة والعولمة.