فعالية العقوبات ضد روسيا
فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية واليابان والدول الأخرى الحليفة، ككندا وأستراليا، عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا. وتسهم هذه الدول بأكثر من نصف التجارة والاقتصاد العالمي. ستعقد العقوبات أي تعامل مع روسيا عالميا، وسينتج عنها تجميد أصول روسية ضخمة قد تفوق تريليون دولار في الخارج، وحرمان روسيا الاستفادة منها. ستحد العقوبات بشكل كبير من قدرة الصناعات والقطاعات الإنتاجية الروسية على الاستيراد والتصدير. وتستهدف العقوبات بدرجة أقسى الصناعات التقنية، والقطاعات الحكومية والعسكرية بشكل خاص. وتهدف العقوبات الاقتصادية والمالية، إلى إلحاق أكبر ضرر ممكن بالاقتصاد الروسي، وإضعاف روسيا مع مرور الوقت.
العقوبات المفروضة من الدول الغربية، وخصوصا أمريكا، مؤثرة لأن الأغلبية الساحقة من التعاملات والمبادلات الدولية تجرى بعملاتها، وخصوصا الدولار، وتمر بمراكزها المالية التي أبرزها نيويورك. وعند خضوع أي فرد أو مؤسسة للعقوبات الغربية، فإن أي تعامل بعملاتها سيجمد، ما يحرم المعاقبين جزءا كبيرا من المعاملات الدولية. ونظرا لتشكيل الدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني معظم احتياطيات البنوك المركزية، فإن معظم التعاملات حتى لو كانت بعملة غير هذه العملات تمر في مرحلة ما بالدولار والعملات الرئيسة الأخرى.
بلغت صادرات روسيا خلال الأشهر العشرة الأولى من 2021 نحو 388 مليار دولار بنمو قوي عن العام السابق وصل إلى 42 في المائة. ويعود صعود الصادرات الروسية بشكل أساسي، إلى تحسن أسعار الطاقة والتعافي من آثار الجائحة. شكلت صادرات منتجات الطاقة خلال الفترة نحو 54 في المائة من إجمالي الصادرات، بينما أسهمت المعادن ومنتجاتها والمنتجات الكيماوية بنحو خمس الصادرات الروسية. وتصدر روسيا أيضا منتجات غذائية أبرزها القمح، وكذلك الآلات والسيارات والأخشاب ومنتجاتها.
تستثني العقوبات، بشكل واضح، منتجات الطاقة لحاجة الدول الأوروبية إليها التي تشكل أهم الصادرات الروسية، حيث ستعاني أوروبا بشدة إذا تقلصت صادرات الطاقة لها. وتفقد العقوبات جزءا كبيرا من تأثيرها لأنها تتجنب التأثير في منتجات الطاقة التي تستوردها أوروبا من روسيا. وتستورد أوروبا ما يقارب ربع وارداتها النفطية من روسيا وما يقارب 40 في المائة من غازها الطبيعي. والعلاقات الاقتصادية لروسيا مع أوروبا والغرب قوية لكنها أهم نسبيا لروسيا، حيث تصدر أكثر من نصف صادراتها إلى الغرب، كما تستورد منه جزءا كبيرا من وارداتها. وتتمتع روسيا بفائض تجاري كبير في السلع، لكنها تعاني عجزا في الخدمات. أما فيما يخص الاستثمارات، فهناك استثمارات غربية هائلة في روسيا بمئات مليارات الدولارات، كما أن لروسيا استثمارات كبيرة في الغرب لكن أقل حجما.
ليس هناك أدنى شك في تأثيرات العقوبات السلبية بالغة الأثر على روسيا، لكن في الوقت نفسه فإن لها آثارا ارتدادية على الغرب، حيث سيتضرر مصدرو السلع والخدمات إلى روسيا من العقوبات، كما ستتأثر بعض القطاعات المستوردة للسلع الروسية. وتحاول الدول الغربية تخفيف آثار العقوبات فيها، لكن سترد روسيا ببعض العقوبات المؤثرة في قطاعات غربية معينة. ويشكك كثيرون في جدوى العقوبات وقدرتها على ثني روسيا عن سياستها تجاه أوكرانيا. ويأتي هذه التشكيك من بطء تأثير العقوبات واستغراقها وقتا طويلا في التأثير الفعال في الاقتصاد الروسي. صحيح أن الاقتصاد الروسي سيتضرر وربما يتراجع أو ينكمش بقوة بسبب العقوبات، لكنه لن يكون كافيا لإجبار الحكومة الروسية على تغيير سياساتها.
عموما العقوبات لن تسقط روسيا قريبا لأنها تتمتع بعناصر قوة مهمة، فلدى روسيا موارد طاقة ضخمة يحتاج إليها الغرب، وخصوصا أوروبا بشدة، كما أنها تنتج غذاء يكفيها إذا دعت الضرورة، إضافة إلى ذلك تتوافر لديها كفاءات كثيرة وشعب متعلم وموارد هائلة. ومن الناحية الاستراتيجية، فإن روسيا مكتفية بالسلاح وتنتج حاجاتها وتصدر الكثير منه. ولا ينبغي أن ننسى أن لدى روسيا تاريخا طويلا مع العقوبات، ولا بد أنها طورت وسائل وطرقا لتخفيف آثارها والالتفاف حولها، ومن أبرزها إعادة توجيه تجارتها الخارجية ومعاملاتها المالية من خلال أنظمة بديلة وعلاقاتها المتينة مع الصين ودول أخرى. وقد تتمكن من خفض تكلفة العقوبات على اقتصادها لكنها لن تلغيها. وكان الغرب قد فرض آخر عقوبات على روسيا منذ 2014 بسبب ضم شبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا، لكن تلك العقوبات لم تجبر روسيا على التراجع أو حتى ثنيها عن هدفها. وأسهمت تلك العقوبات في خفض معدلات النمو الاقتصادي في روسيا دون 1 في المائة خلال الأعوام القليلة الماضية.
العقوبات الاقتصادية تأثيرها بطيء وطويل الأمد. ولم تفلح العقوبات مرارا في تعديل سياسات الدول المستهدفة، بل استغلتها الأنظمة في دعم وجودها وممارساتها واستغلالها لتبرير المعضلات التي تواجهها. ويرى كثيرون أن العقوبات تسيء للشعوب بدرجة أكبر من إساءتها للأنظمة. ولا يمكن إنكار أن تحدث العقوبات المفروضة على روسيا أضرارا بالغة عليها، وتخفض معدلات نمو اقتصادها، لكن من الصعب تحديد مقدار خسائرها المتوقعة. وتتحدد فعالية ونجاح العقوبات القاسية تاريخيا المفروضة أخيرا في تحقيق أهدافها بمدى تأثيرها في الرأي العام داخل روسيا، وحجم خسائر المؤسسات الإنتاجية، وقدرتها على رفع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة.