التقنية والقطاعات المحلية .. نقاط الالتقاء والتأثير
تتحول التقنية إلى تحد صعب إذا لم تسخر بشكل مدروس لتساعد على تحقيق الازدهار للوطن والرفاهية للمواطنين. يحدث هذا الازدهار عندما تحرك التقنية المرتكزات الاقتصادية بشكل فعال ومؤثر وتصنع الوظائف وتحفز انسيابية متطلبات النمو والعدالة الاقتصادية. عندما نتحدث عن المشهد التقني المحلي نجد أن التصورات العامة تشهد كثيرا من ملامح الفخر والقبول التي تتسم بالتغيير السريع والنمو المحمود.
وهذا نتيجة طبيعية لقفزات معتبرة في التحول التقني العام الذي تقوده الحلول الحكومية الرقمية، مع النشاط المساند الآخر الذي يرتبط بالحراك التقني في الشركات الناشئة، خصوصا ما يصب ويحرك التجارة الإلكترونية وخدمات التجزئة. ولكن المشهد أوسع من ذلك وهناك مرابط ومحاور جوهرية تؤثر في النتائج المأمولة من هذه التطورات المهمة للوطن.
لو عدنا خطوة للوراء نستطيع القول إن هناك عدة نقاط تسلسلية تقودنا إلى زاوية النظر في هذا المقال. في البداية يمكننا القول إن تنمية وتنويع القدرات والممارسات الاقتصادية التي تحرك صنع الوظائف لا يمكن أن تعمل بعزلة عن التطورات التقنية. والحديث عن التقنية يستدعي النظر إلى الدورة الحالية من التطور التقني Industry 4.0, Web3, etc ويلزم النظر في التوجهات التقنية الرئيسة Digital Frontiers التي تقود الواقع الجديد مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الكبرى والألواح الضوئية.
الحديث عن هذه التقنيات لا يستقيم إذا كان بعيدا عن القطاعات الاقتصادية التقليدية التي تستخدم لتصنيف الأنشطة وتمييزها وقياس معطياتها وأثرها، خصوصا أن القدرة على الاستغلال التقني تختلف باختلاف القطاع، وهذه القطاعات تتأثر بالتقنية بشكل مباشر، نحن نراها اليوم تتغير بشكل دائم وغير متوقع أحيانا. القصة مختلفة لكل قطاع عن الآخر، سواء بالاستخدام الصناعي أو الإجرائي للتقنية أو في الممارسات التقنية المرتبطة بالسلوكيات والتفاعل مع الأفراد والجموع.
ربط النتيجة الإيجابية المأمولة من التطور التقني يحتم علينا أن نحصر الحديث في المجال التقني "إنترنت الأشياء، بلوكتشين، وتقنية حيوية... إلخ" وفي القطاع المحدد "صحي، مالي، زراعي، وصناعي... إلخ" الذي يتأثر ويستفيد من هذا المجال. عند النظر في مثل هذه التقاطعات سنجد أن الحديث سيتحول إلى مواضيع أخرى مؤثرة مثل السياسات المرتبطة بتعزيز ونقل المعرفة والابتكار أو جهود بناء المهارات ورفع مستوى الكفاءات والمواهب. ومع أهمية هذه المواضيع وباعتبارها أحد أهم نقاط الالتقاء والتأثير في تقاطعات التقنية والقطاعات النشطة والمستهدفة محليا إلا أنها ليست الوحيدة.
لو افترضنا جدلا أننا نبحث عن تحسين استثنائي للقطاع المالي باستخدام التقنية المالية، وقمنا بالعمل على تخريج عدد كبير من أصحاب المهارة الملائمة بجودة عالية، ومررنا السياسات المحفزة والتنظيمات الكافية لاستيعاب هذا النوع من الابتكار، لن نتحرك بالضرورة إلى الأمام، فالطريق يتطلب مزيدا من التمهيد ولا يعد – بهذه التحسينات – مؤهلا لتحقيق قفزة مؤثرة اقتصاديا ومستدامة محليا عند هذا التقاطع المستهدف.
يذكر كتاب مفارقة الابتكار Innovation Paradox الذي يستعرض مجموعة من الأبحاث حول إمكانات الدول النامية وقدرتها على اللحاق بالتطور التقني بأن الأعوام الماضية تؤكد أن جهود المتأخرين في السباق التقني كانت تفشل أكثر مما تنجح. وأن الاستثمار في الابتكار لا يكفي لتحقيق العوائد المأمولة، فالاستثمار في حد ذاته من دون الحصول على الأدوات والتقنيات الحديثة والتعامل مع أصحاب المواهب المؤهلة ومن دون العمل في سياق مدعوم ومحفز وبيئة تنافسية عادلة وتحت حماية جيدة للحقوق الفكرية وفي منظمة بجودة إدارية معتبرة لن يحقق الشيء الكثير.
وبالعودة إلى مثال التقنية المالية، سنجد أن هذا التقاطع المهم بين القطاع المالي والابتكار التقني لن يقوم فقط على وجود أذكياء جاهزين للعمل وتنظيمات وسياسات ملائمة. سنضيف إلى المعادلة جودة منظمة تدار بفكر ملائم، وهذا يعني مزيجا من الأساليب الإدارية والتنظيمية الملائمة لبيئة الابتكار وإدارة التقنية التي تتطلب مهارات تنظيمية مختلفة عن البيئات الأخرى التي لا تقوم على الابتكار. وبكل تأكيد ستحتاج مثل هذه المنظمة – إن نجحت في إدارة أعمالها الابتكارية من الداخل بالشكل المطلوب – إلى التعامل مع الخارج بفاعلية عالية "السوق، وسلاسل الإمداد... إلخ".
من المستحيل توجيه التقنية لتحركنا نحو المستهدفات الاقتصادية وفي الوقت نفسه عدم التركيز على التقاطعات التي تستحق الأولوية. كل تقاطع من هذه التقاطعات هو بحاجة ماسة إلى الاهتمام بالطريقة المناسبة له. نرى اليوم كثيرا من خطوات الدعم المرتبط بالتشريعات والمهارات، ولكن هناك حيز كبير من الجوانب التي لا تزال بعيدة عن التركيز، مثل الاهتمام بالقدرات الإدارية للمنظمات المشاركة في هذا التقاطع، ومثل تشجيع نماذج الأعمال المؤسسية الناجحة وتثبيتها لتصبح تجربة قابلة للاستنساخ ودعم مكونات نموذج العمل "وهذا يشمل احتياجات الأطراف المشاركة والسوق وآليات التعاقد وكثيرا من العناصر التي لا يصنع التركيز عليها بشكلها العمومي قيمة كبيرة".
سيقود مثل هذا الأسلوب إلى استكشاف جزئيات الأعمال التي تستحق الدعم المتخصص، والعمل على نقل التقنية والمعرفة وتحسين الجودة الإدارية التنظيمية المتعلقة بالابتكار، وهذا ما يرفع فرص تحقيق العوائد المؤثرة من خلال هذه التقاطعات المهمة.