عقوبات في نطاق حرب

«كل الأصول الروسية في الولايات المتحدة سيتم تجميدها»
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة

كان واضحا منذ البداية، أن حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لن يتدخل في أوكرانيا لمواجهة القوات الروسية التي تزحف على هذا البلد. المسؤولون الغربيون ملأوا وسائل الإعلام بتصريحاتهم التي تؤكد ذلك، ولم يعدوا الحكومة الأوكرانية بتدخل مباشر في حال تعرض البلاد لأي هجوم عسكري. وفي الوقت نفسه، لم تخف دول "الناتو" تقديمها لما اعتادت على وصفه بـ"المعدات العسكرية الدفاعية" لأوكرانيا من كل الأنواع البرية والبحرية والجوية. فاستراتيجية التعامل الغربية بشكل عام مع روسيا الاتحادية في زمن الأزمات أو الخلافات الكبيرة بقيت هي ذاتها، الاعتماد على "سلاح" العقوبات الذي يعفي الجهات التي تفرضها عبء وخطورة المواجهة مع قوة نووية كبرى، وقوة عسكرية هي الثانية من حيث الحجم والقدرات على المستوى العالمي.
وبصرف النظر عن الأصوات التي تصدر هنا وهناك، وتتحدث عن أن العقوبات لا تؤثر في النظام المستهدف، إلا أن بديلها ليس إلا مواجهة عسكرية يخشى العالم أن تتحول شيئا فشيئا إلى حرب عالمية ثالثة. في سؤال شهير وجه للعالم الألماني ـ الأمريكي ألبرت أينشتاين، إن كان يتوقع شكل أسلحة الحرب العالمية الثالثة، رد بأنه لا يعرف شكل هذه الأسلحة، إلا أنه يعرف أسلحة الحرب العالمية الرابعة، التي ستكون السيوف والخناجر. وهذا رد واضح على الطبيعة التي يمكن أن تكون عليها حرب ثالثة، بعد أقل من 80 عاما على نهاية الحرب الثانية. والعقوبات "بحسب التاريخ الحديث" لم تحسم قضية ولم تنه أزمة، ولم تقسط نظاما، إلا أنها تسهم إلى جانب عوامل أخرى في إحداث تغيير ما.
روسيا الاتحادية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين ليست غريبة عما يمكن وصفه بـ"نظام العقوبات". فرضت عليها أنواع مختلفة منها سابقا، ولا سيما بعد استفحال أزمة شبه جزيرة القرم، التي انتهت باحتلال موسكو لها. منذ عام 2014 "أو سنة أزمة منطقة القرم" تعرضت روسيا لعقوبات مختلفة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهذه العقوبات لا تزال سارية المفعول، وتتعرض للتمديد بين الحين والآخر. وكان التمديد الأخير في منتصف العام الماضي. وهذه العقوبات أثرت بقوة في الأداء الاقتصادي الروسي، بما في ذلك تراجع قيمة الروبل، ونشوء ما يمكن وصفه بالأزمة المالية المحلية. وبالطبع العقوبات المشار إليها، تسببت أيضا في خسائر اقتصادية لعدد من بلدان الاتحاد الأوروبي، بحيث قدرت بنحو 100 مليار يورو حتى عام 2015. والعقوبات على دولة مثل روسيا، لا بد أن تؤثر سلبا في دول أخرى، خصوصا تلك التي تجمعها مع موسكو علاقات تجارية في قطاعات مختلفة، ولا سيما في ميدان الطاقة.
الحرب على أوكرانيا بعد أقل من عقد على اجتياح "القرم"، لم يغير من طبيعة رد الغرب و"الناتو" على موسكو. العقوبات تبقى في المقدمة ولا شيء غيرها على الأرض مباشرة. لكن هذه المرة العقوبات صارت أقسى وأشد وأكثر إيلاما، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الروسي صعوبات مختلفة. صحيح أن ميزانه التجاري يعد جيدا، والديون الحكومية منخفضة مقارنة بمثيلاتها على الجانب الغربي، إلا أن بقية القطاعات تواجه مصاعب جمة، بما في ذلك ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الروبل، وفشل محاولات التخلص من روابط الدولار الأمريكي في التجارة الخارجية، وتراخي العلاقات الروسية مع القوى الآسيوية الأخرى. فأي عقوبات بصرف النظر عن مستواها تؤثر وبسرعة في المشهد الاقتصادي العام.
العقوبات الجديدة لم يسبق لها مثيل، لأنها ضربت كل شيء تقريبا على الصعيد الاقتصادي، وعلى رأسها منع روسيا من الوصول إلى النظام المالي العالمي، بإخراجها من خدمات "سويفت"، وتقييد عمل المصارف الروسية، وفتح ملفات غسل الأموال على جانبي المحيط الأطلسي، وتجميد الأصول الروسية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، حتى أن المالك الروسي لنادي تشيلسي الإنجليزي المعروف رومان أبراموفيتش تنحى عن منصبه في إدارة النادي، لأنه معروف بعلاقته الخاصة بفلاديمير بوتين. هذه العقوبات شاملة، بما في ذلك منع تصدير التكنولوجيا لروسيا، وهي بحاجة إليها كثيرا في مسار صناعاتها. وهذا يعني أيضا أن مؤسسات تنتمي إلى طرف ثالث ستكون خاضعة للملاحقات والغرامات، ما يعني أن روسيا ستكون معزولة اقتصاديا حقا.
بالطبع الجانب المهم أيضا، يتعلق بصادرات روسيا من النفط والغاز. والضربة الأكبر تلقتها موسكو بتجميد مشروع "نورد 2" للغاز الذي يربطها بأوروبا. وهذه الأخيرة التي تسهم مباشرة في فرض عقوبات قاسية، تعيش حالة قلق دائمة على صعيد الطاقة، خصوصا الغاز الروسي الذي يمثل 40 في المائة من واردات القارة. ورغم أن روسيا تتمتع باحتياطي مالي يصل إلى أكثر من 643 مليار دولار، أو ما يعادل 17 شهرا من عائدات الصادرات، وهو مستمر في النمو بفعل ارتفاع أسعار الطاقة، إلا أن بقاء العقوبات الغربية فترة طويلة، "سيأكل" كل هذه المكاسب. لا يمكن لأي جهة في العالم أن تستمر بصورة طبيعية تحت ضغوط ومخاطر العقوبات، فما تملكه اليوم، سينتهي غدا إذا توقفت "المولدات" المالية في حقول الإنتاج في كل الميادين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي