أوكرانيا .. الجوار الصعب
اعترفت روسيا أخيرا بانفصال شرق أوكرانيا الغني بالثروات، وشنت بعدها هجوما واسعا على أوكرانيا بعد حشود عسكرية ضخمة استمرت لعدة أشهر، ما رفع مستويات توتر العلاقات الدولية. وتزداد مع درجات التوتر حالة عدم اليقين، نظرا لموقع النزاع والقوى الداخلة فيه ومخاطر توسعه وامتداداته. وتؤثر حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي مضيفة مخاطر إلى التطورات الاقتصادية ورافعة أحجام أخطاء التوقعات الاقتصادية. وستكون أوروبا الخاسر الأكبر من الحرب بعد أوكرانيا بسبب العلاقات الاقتصادية الضخمة بينها وروسيا. وبدأت الدول الأوروبية والولايات المتحدة بحملة عقوبات غير مسبوقة على روسيا بعد شنها الحرب. وستؤثر هذه العقوبات بقوة في الاقتصادات الأوروبية والروسية، كما ستتفاقم أزمة الطاقة. وسيحد هذا بالطبع من معدلات النمو العالمي، وإذا طالت وتفاقمت الأزمة، فقد يدخل الاقتصاد العالمي في ركود.
يعتمد الاقتصاد الروسي على صادرات الطاقة من النفط والغاز، وإلى درجة أقل الفحم الحجري، لهذا فإن فرض العقوبات قد يشمل قيودا على صادرات الطاقة. وتصدر روسيا كميات هائلة من الطاقة، لهذا فإن استهدافها بالعقوبات سيخفض إمداداتها العالمية، ولو لفترة من الزمن. ونظرا لأن هناك ضغوطا على أسعار الطاقة حاليا، فإن أي نقص في إمدادات النفط والغاز اللذين يشكلان الجزء الأكبر من الطاقة العالمية سيرفع الأسعار، ما سيزيد مخاطر التضخم العالمي ويدفع البنوك المركزية العالمية، إلى تبني سياسات نقدية متشددة. وفي حالة حدوث هذا، ستتراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي. وسيكون أكبر المتأثرين من العقوبات على صادرات الطاقة روسيا والاقتصادات الأوروبية، وخصوصا ألمانيا. وسيصعب على الدول الأوروبية الاستغناء عن الغاز الروسي، أما الاستغناء عن النفط الروسي، فهو شبه مستحيل، وارتفاع الأسعار سيقلل من تأثير العقوبات في روسيا التي تعد أكبر مصدر للطاقة.
كانت الأسواق المالية، خصوصا في روسيا، أول المتفاعلين مع حدوث نزاع مسلح، حيث تراجعت الأسهم الروسية بنحو 45 في المائة في أول أيام الحرب، وهذا ناتج بالطبع من ارتفاع حالة عدم اليقين ومخاطر التضخم ومخاوف رفع معدلات الفائدة. وسيتتابع فرض العقوبات الاقتصادية الصارمة على روسيا التي ستحاول جهدها لتجنب آثارها والتوجه بدرجة أكبر نحو الصين ودول أخرى، ما سيغير بعض الشيء مسارات التجارة العالمية. ويبدو أن روسيا تعودت على العقوبات الاقتصادية نظرا لتاريخها الطويل معها. ومنحت روسيا منطقتين فيها استقلالا ذاتيا يجعلهما من الناحية القانونية خارج نطاق روسيا. وتستخدم روسيا هاتين المنطقتين في أقصى شرق وغرب روسيا كملاذات مالية للالتفاف على العقوبات الاقتصادية. وتمنح هاتان المنطقتان امتيازات ضريبية لشركات ورجال الأعمال، وعاد كثير من الشركات الروسية في الخارج إليها للتمتع بامتيازاتها وتجنب العقوبات. لهذا قد يفلح رجال الأعمال المستهدفون بالعقوبات في تجنب معظم الآثار السلبية الناتجة عنها. لكن هذا لا يخفى على الدول الغربية، حيث من شبه المؤكد أن تشمل العقوبات الملاذات المالية الروسية.
ستشل الحرب أوكرانيا وتضعف اقتصادها ما سيجبرها مع مرور الوقت على التجاوب والتعايش مع السياسات الروسية. وتسعى روسيا من الحرب ورفع درجة التوترات في أوروبا، إلى الحصول على ضمانات أمنية إضافية من خلال بذر الشقاق بين الأوروبيين بعضهم بعضا من جهة، وبين أوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى، بحيث تميل الدول الأوروبية بدرجة أكبر للتوافق مع بعض المطالب الروسية الأمنية. من جهة أخرى، يبدي البعض هواجس حول سعي أمريكي في استغلال الحرب لإخافة الأوروبيين ودفعهم إلى الابتعاد أكثر عن روسيا وخفض اعتمادهم على النفط والغاز الروسي، وبالتالي إضعاف قدرات روسيا الاقتصادية على الأمد الطويل. وتظهر الأزمة أن اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية يحمل مخاطر أمنية لأوروبا ويضعف مركزها التفاوضي.
أما الخاسر الأكبر من وراء الحرب، فهي أوكرانيا التي بدت وكأنها دمية تتلاعب بها الدول العظمى. وتوضح الحرب الأوكرانية مأساة الجوار الصعب وملاصقة الدول العظمي. وتعاني أوكرانيا حاليا ضغوطا قوية على اقتصادها بسبب الغزو الروسي الذي يظهر أنها عاجزة عن صده. وخسرت سابقا أجزاء من أراضيها الغنية بالثروات، ما أثر سلبا في إمكاناتها الاقتصادية طويلة الأمد. أما الاجتياح العسكري الحالي فهو الطامة الكبرى على اقتصادها، حيث أدى إلى توقف تام للسياحة والسفر والنقل الجوي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد غادر معظم رجال الأعمال والمستثمرين والدبلوماسيين البلاد، وتراجعت مستويات الأنشطة الاقتصادية إلى مستويات متدنية جدا، ما ينذر بعواقب اقتصادية وخيمة. وترتفع حاليا درجات عدم اليقين حول مستقبل أوكرانيا واستقلالها، ما يهدد بشل الحياة الاقتصادية لفترة من الزمن. وعلى العموم لا يبدو أن هناك انفراجا سريعا للحرب الأوكرانية، وستستمر الأزمة إلى بعض الوقت.