كانوا هناك
جيل يحمل مخزونا من الذكريات وإرثا ثقافيا لا يستهان به، عاشوا فترات عصيبة وعاصروا مر الحياة وحلوها، كانوا هناك يوم لم يكن هنا سوى رمال الصحراء وبعض البيوت والخيام، عانوا شظف العيش وهاجر بعضهم يطلبون الرزق في البلدان المجاورة، ولم يدر بخلد أحدهم أن هذه الأرض ستكون منبع الخير وستتحول حبات الرمال إلى ذهب ستكون أرضهم هي الملجأ والمهرب للكثيرين، بل وتمتد يدها بالخير والعطاء لجيرانها وإخوانها في العروبة والدين.
إنهم كبار السن والخبرة والتجربة، أعمدة البناء وشعاع النور، هم جزء أساسي من هذا التطور الذي نعيش فيه لولا صبرهم وجهودهم وإيمانهم بقادتهم لما أصبحنا اليوم على ما نحن عليه علمونا ماذا يعني الولاء والطاعة لولاة الأمر، معنى أن نكون مع قادتنا قلبا وقالبا، أن نسهم في بناء الوطن ونحافظ على أمنه وندافع عنه بقوة الكلمة والسلاح إن لزم الأمر.
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأعطاهم حتى أرضاهم.
من بيوت الطين خرجوا إلى أفخم الفلل والقصور، ولم ينسهم رغد العيش ذلك الماضي الجميل رغم قساوته، تحدق في أعينهم فترى بقايا من شبابهم يحكي لك عما كانوا عليه كأنك ترى الشوارع الترابية وهي تتحول إلى الأسفلت، ووسائل النقل من عربات تجرها الحيوانات إلى سيارات فارهة، والظلام ونور المشاعل والسرج إلى أعمدة كهرباء لا ينقطع ضوؤها، وجرار السقائين ومياه الآبار تتحول بقدرة قادر إلى "حنفيات" صغيرة لا تحتاج حتى إلى أن تلمسها لينطلق شلال من الماء العذب النقي القادم إليك من أقاصي البحار بعد أن مر على محطات التحلية، الطائرات تصبح وسيلة نقل عادية بعد أن كانت إحدى عجائب الزمان يجتمع الكبار والصغار على الأسطح لرؤيتها، ترى بين مقلتيه طيف مغترب غاب وانقطعت أخباره ثم أصبحت تصل منه بعض الرسائل الورقية التي تاه معظمها بين البلدان أو القرى، ثم أصبح بإمكانه سماع صوته والآن لا تشعر بغياب أحد، فالعالم كله بين يديك صوتا وصورة.
أعتقد أن جيل المخضرمين كنوز المعلومات والصناديق السوداء التي تمدك بأسرار الماضي عن كفاح الآباء والأجداد طريقة حياتهم لبسهم نوعية أكلهم، هم من يجب أن يظهروا على الساحة اليوم ولهم الحظوة، هم من يجب أن نحتفي بهم وتخصص لهم صدور المجالس لنسمع منهم صوت الماضي الذي يدفعنا لنعتز بحاضرنا ونفتخر به ونقدر كل قطرة عرق سقطت من جبين رجل، أو دمعة هلت من عين امرأة ساندت رجال ذلك الزمن وشدت عضدهم وحفظت غيبتهم وربت جيلا نهض بالمستقبل.