أوروبا والمستقبل المجهول

يكاد المرء لا يصدق ما يجري من أحداث في أوروبا. بالطبع، هناك مفاهيم متعددة من حيث الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والتحالفات والنمو والتطور التكنولوجي والدخل وغيره بين الدول، التي تشكل القارة الأوروبية المترامية الأطراف.
جزء من أوروبا يقع ضمن ما نطلق عليه الغرب أو مجموعة الدول الغربية، وهنا يتضمن المصطلح دولا مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
وفي أوروبا دول كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق، صار أغلبها الآن ضمن نطاق مجموعة الدول الغربية المنضوية في أكبر تجمع عسكري في العالم ألا وهو حلف الناتو.
وقوة حلف الناتو تنبع خارج نطاق الدول الأوروبية المنتمية إليه. الناتو، لولا أمريكا، لفقد سطوته العسكرية إلى درجة أن كثيرا من المحللين يرون أن الحلف قد يضمحل في غيابها.
إذا، الخريطة الأوروبية لها وجهان، أو جغرافيتان. الأولى تتكئ على قوة عسكرية خارج نطاق الجغرافيا الأوروبية، والثانية تشكل قوة عسكرية كبيرة جذورها أوروبية المنشأ، أي روسيا وحليفاتها من بعض الدول الصغيرة، التي كانت يوما جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق.
وما أشبه اليوم بالبارحة والحرب الطاحنة تدور حاليا رحاها في أراضي أوكرانيا بعد هجوم روسي كاسح. وهذا بالضبط ما يؤكده كثير من المحللين، وبين أسطرهم توجس وخشية وخوف وهلع من القادم من الأيام.
روسيا كجزء من أوروبا لها أصدقاء خارج نطاق جغرافية أوروبا، هؤلاء ليسوا في حلف ملزم معها كما هو الشأن مع الناتو، الذي هو تحالف عسكري ملزم.
وها هي الواقعة قد وقعت، ويبدو أننا مقبلون على أيام عسيرة جدا، حيث إن الحرب الضروس، التي دشنتها روسيا مسرحها أوروبا بشقيها: الشق الأوروبي الأول تقوده موسكو، والشق الأوروبي الثاني تقوده واشنطن البعيدة عن القارة جغرافيا بآلاف الأميال.
لقد وضعت الحرب أوروبا برمتها على حافة الهاوية، مع فارق كبير في المواجهة، التي إن لم تضع أوزارها سريعا ــ وهذا يبدو أمرا مستبعدا ــ فإن الصراع الدموي سيكون في النهاية مقابلة أو مبارزة بين الجيشين الروسي والأمريكي المدججين بأفتك الأسلحة، التي عرفتها البشرية طرا.
الأمريكيون ليسوا في حاجة إلى تخزين المواد الغذائية الأساسية أو التفكير مليا في اقتصاد الحرب وتبعاتها المباشرة. أمور مثل هذه بدأت تطفو على السطح في أوروبا التي هي مسرح لهذه الحرب.
أسواق الأوراق المالية اتخذت منحنيات يرى فيها المحللون مؤشرا لما يحدث حين تكون الدول على مقربة أو في خضم حرب ضروس.
الأسعار، وعلى الخصوص للمواد الأساسية ومنها الطاقة، وصلت حدودا صار لا يطيقها أصحاب الدخول المحدودة. وتقرأ حاليا في الصحافة وتشاهد في التلفزة كيف أن بعض العوائل، في محاولة لدرء مقدم فواتير الكهرباء التي لا طاقة لهم بدفعها، تطفئ التدفئة وتلتجئ إلى الخشب أو التغطية بالبطانيات.
والمقارنات والمقاربات مع الحرب العالمية الثانية لا تغيب عن البال، لأنها حاضرة، وهي جزء من تاريخ أوروبا المعاصر. وحسنا يفعل بعض الكتاب المتنورين، الذين يذكرون الساسة والقادة بما أحدثته تلك الحرب الكارثية من مآس وفواجع والـ 20 مليونا من المدنيين، الذين قتلتهم والملايين من الناس، الذين أحرقتهم وهم أحياء.
وكما هو شأن النظام الرأسمالي، الذي لا يفوت فرصة إلا ويستثمرها لتراكم الثروة، شرعت بعض المؤسسات وأخذ بعض المحللين يقدمون النصائح للراغبين في الاستثمار وأوروبا على شفا حرب عالمية أخرى.
وهناك تركيز على القاعدة الاقتصادية الذهبية أثناء الحروب: التركيز على الاستثمار "أي شراء أوراق" شركات الأسلحة أو الشركات، التي تقدم خدمات للجيش وسير المعارك.
وكذلك هناك تركيز على ما أفرزته حركة أسواق الأوراق المالية منذ الحرب العالمية الثانية عندما تمشي جيوش جرارة إلى الحرب، حيث تنخفض قيمة الأوراق بشدة قبل وأثناء المعارك، ولكن سرعان ما تزداد قيمة، حال وضعت الحرب أوزارها.
وتلاحظ كذلك أن الإعلام ــ والإعلام الغربي طاغ ومتمكن ويبث الإقناع بسرعة ــ يدور في فلك السلطة ويلوك السرديات، التي تأتي بها، كما هي، لا بل يعمد إلى تضخيمها لبث الرعب.
وهكذا نلحظ أن صدر الصفحات ونشرات الأخبار تحتلها عناوين تبث الرعب في الناس منذرة بندرة للسلع وعدد ضحايا كبير وملايين المهاجرين وزيادات كبيرة في أسعار المواد الأساسية منها القمح والنفط ومشتقاته والغاز خارج إمكانية أصحاب الدخول المحددة.
وهناك محاولات حثيثة لشيطنة الطرف الآخر وإظهاره أنه المعتدي، حيث تطغى سردية الغرب بقيادة أمريكا على الخطاب بصورة عامة.
المخيف والمرعب هو المقارنات والمقاربات، التي تجريها الصحف والتلفزة ــ في الحقيقة بعض الساسة أيضا ــ مع النازية وهتلر، وأن الوضع ما هو إلا تكرار لتلك الأحداث الدموية المرعبة ضمن نطاق الحرب العالمية الثانية.
غريب أمر الدول الغربية وهي تتخبط أمام أزمة مصيرية إن فلت عقالها ــ وهو على وشك الانفلات ــ لأثخنتهم جراحا. إن كان هؤلاء "المتنورون" لا يستطيعون معالجة مشكلاتهم وأزماتهم وصاروا قاب قوسين أو أدنى من حرب عالمية ثالثة، ولا يعرفون ما الحل الدبلوماسي السليم لإبعاد شبحها، فكيف لهم حل مشكلات غيرهم؟.
ولهذا لا أستغرب أنا شخصيا عند رؤيتهم وهم يتخبطون في حروبهم العبثية إن في أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو غيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي