ذاكرة التاريخ .. أحداث وعبر
الذاكرة البشرية، سواء كانت فردية أو جماعية تمثل قيمة في الحياة، لما يترتب عليها من استرجاع لما يختزن فيها من خبرات ومعارف عبر محطات الحياة بحلوها ومرها، وما يصاحبها من مشاعر تعود بالفرد إلى أزمنة قديمة بالقياس على عمره، تذكره بالأماكن التي سكنها، وبأهله، وجيرانه، وما مر به من خبرات ومواقف، فالبيت، والمدرسة، والشارع، والحديقة، والحي كلها لها ذكريات تميزها عن غيرها، خاصة في مرحلتي الطفولة والشباب، حيث ظروف النشأة، والانطلاق في الحياة، وتكوين الصداقات، لذا نجد كثيرا من الناس تعود بهم ذاكرتهم إلى منازلهم القديمة، ويتذكرون الأصدقاء، وزملاء المدرسة مع ما يصاحب ذلك من مشاعر الوجد، والحزن، وتمني لو يعود الزمن مرة ثانية إلى تلك الأيام، إلا أنها تبقى أمنيات غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، فما مضى لا يعود بالنكهة والظروف نفسها.
لعل استثمار خبرات وذكريات الماضي يسهم في اشتقاق الدروس والعبر، وتوظيفها على مستوى الفرد لإعادة رسم خريط الطريق بما يتناسب مع الظروف القائمة، وبما يتوقع مناسبته المستقبل بظروفه المعقدة والمتحولة بسرعة فائقة. لا شك أن مسيرة كل فرد فيها الإيجابي والسلبي، وفي استرجاعها، فرصة التعديل وتجاوز الإخفاقات والمحافظة على النجاحات والتمسك بأسبابها.
هل توجد ذاكرة جمعية، أي ذاكرة أمة ووطن؟ نعم، إلا أن الذاكرة الجمعية ترتبط بالأحداث الجسام التي مرت بها الأمة أو الوطن، وما ترتب عليها من مكاسب أو أضرار تتناقل أخبارها أجيال الأمة جيلا بعد جيل، فهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، حدث ترتب عليه انعطاف كلي في مسيرة الدين الجديد، انعكست آثاره، ليس في الجزيرة فحسب، بل في العالم بأكمله في ذلك الوقت، حيث امتداد الإسلام، ودخول أقوام ومناطق شاسعة من العالم تحت لواء الدولة الإسلامية. لذا التاريخ الهجري لم يأت من فراغ، وإنما لترسيخ الحدث، وتثبيته في ذاكرة الأمة. والتاريخ الإسلامي مليء بالأحداث العظيمة التي تحتل حيزا كبيرا من ذاكرة الأمة. ذاكرة اليابان الجمعية لا يمكن أن يمحى منها الحدث المأساوي حين ضربت مدينتا نجازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية، ولذا جعل اليابانيون من تاريخهما يوما لذكرى المأساة وتذكر الضحايا، والعمل الجاد للبناء والتطور، ما أهلها لتكون من أقوى اقتصادات العالم رغم ندرة الموارد الطبيعية.
المملكة مرت في مراحل نشأتها بأطوار ضعف، وقوة، حسب الظروف القائمة في حينها، وحققت نجاحات خلدها التاريخ لما تمثله من انعطافة في حياة سكان الجزيرة العربية التي كانت تعج بالصراعات والحروب، وعدم الاستقرار، والسلب، والنهب، لذا فإن تاريخ التأسيس 1727 يمثل بذرة تحول تبعتها أحداث وإنجازات أسهمت في مواصلة بناء الدولة المستقرة حتى جاء تاريخ التوحيد بما يعرف تاريخيا بالدولة السعودية الثالثة. ولعل في التاريخ وتفاصيله كثيرا من المحطات التي أسهمت في إحداث نقلات نوعية في حياة الناس، كالقرارات والإجراءات المرتبطة بالتعليم، واكتشاف النفط، وما ترتب عليه من نهضة شملت جميع المجالات.
إذا كانت الذاكرة الفردية ذات قيمة على مستوى الفرد، وربما يمتد أثرها للآخرين، فإن الذاكرة الجمعية قيمتها وأثرها ليس محصورا في فرد، أو فئة اجتماعية، أو منطقة، وإنما تشمل الآثار الإيجابية عموم الناس بجميع انتماءاتهم المناطقية والعرقية، وتتمثل الآثار في شعور الجميع بالانتماء لجذر واحد يتوحد الناس حوله، متحلين بالقيم السامية، والأخلاق الرفيعة، والشجاعة، والفروسية النادرة، كما أن الحدث الضخم يمثل مصدر إلهام يشجع الجميع على الإبداع والبطولات ذات الامتداد التاريخي الراسخ في أعماق التاريخ.
إذا أدركنا أن التاريخ ليس مجرد أحداث، وأماكن نقرأ بشأنها، أو نسمع ما يروى حولها، لذا فإن مناسبة تأسيس المملكة يفترض أن نجعل منها رافعة تثير الحماس لمزيد من الجهود في المحافظة على المكتسبات التنموية التي تحققت، ونحولها إلى فرصة للحفاظ على الأمن والاستقرار اللذين دونهما تفقد الحياة، وتضيع مشاريع التنمية في جميع المجالات. إن مشاعر الانتماء الحقيقية تستوجب بذل مزيد من الجهود لمزيد من الإنتاج المنافس على الساحة الدولية، كما يجب ألا تتحول إلى يوم فرح فقط، بل على الجميع تعهد النفس بالإخلاص، كل في موقعه ومجال عمله.