هيكلة ضريبية لعدالة تجارية

وضعت منظمة التجارة العالمية، اتفاقية الجات GAAT، لتشجيع التجارة العالمية والتنافسية بين دول العالم ووسعت في ذلك جهودها من أجل تخفيف الضرائب والجمارك، وإلغاء الدعم والقيود المفروضة على حرية حركة الأموال، وذهبت في ذلك بعيدا حتى أصبحت التنافسية العالمية عاملا مهما لجذب الأموال والمستثمرين وأحد أهم المؤشرات الاقتصادية.
كما عملت جاهدة على إلغاء الدعم والمزايا المقدمة للشركات المحلية في أي دولة أملا في الوصول إلى تجارة مفتوحة. ومع هذا التحرك والتوجه لم يكن في الحسبان أن تصل التنافسية إلى مستوى المنافسة الضريبية بين الحكومات، وأصبح من أكثر الموضوعات سخونة ونقاشا وجدلا، ويحظى بأهمية متزايدة، ما نتج عنه حركة واسعة لرؤوس الأموال بين الدول الأكثر في حركة السلع الرأسمالية واستخدام العمال، كما سعت المنافسة الضريبية إلي تخفيض مستمر بين الدول لمعدلات الضرائب على الدخل الذي تكسبه الشركات الأجانب داخل حدودها لجذب كل ما تستطيع من الاستثمارات المباشرة.
لكن ما المشكلة في المنافسة الضريبية طالما تحققت أهداف منظمة التجارة العالمية، وهناك حرية واسعة في حركة الأموال، خاصة أنه لا أحد يجادل- تقريبا- في دور المنافسة وقدرتها على تخصيص الموارد الاقتصادية بصورة أكثر كفاءة من أي وسيلة أخرى، ودافع كثيرون عن المنافسة الضريبية بين الحكومات أنها تحد من الإنفاق المهدر للموارد وتعمل على تحسين الحوكمة، لكن مع هذه المبررات كان القلق يتزايد، خاصة مع تنامي قدرات الشركات الرقمية مثل فيسبوك وأمازون على الاستفادة من هذا الوضع الضبابي.
المشكلة أن التنافسية قد تقود إلى سباق نحو القاع من خلال الإعفاءات الضريبية والضرائب الصفرية، ما يتسبب في تقليص الإيرادات الضريبية بشكل حاد أو إحداث تشوهات في الهيكل الضريبي أو تخفيض الإنفاق العام والتقشف، ما يقوض الهدف الأساسي الذي بنيت من أجله الاتفاقيات التجارية العالمية، وبتوقيعها تم فتح الأسواق وتشجيع حرية حركة الأموال والعمال.
فالمنافسة الضريبية تقوض ضرائب دخل الأفراد والشركات، التي تعد المصدر الرئيس لإيرادات جميع الدول الحديثة، إضافة إلى هذا تبين من خلال دراسات متخصصة أن الشركات تستطيع أن تتلاعب بالتسعير التحويلي، وتستخدم أدوات أخرى لتجنب الضرائب ونقل الأرباح من البلدان ذات الضرائب المرتفعة إلى البلدان، التي تفرض ضرائب منخفضة، فعندما تخفض البلدان أوعية ضرائب الشركات، فإن هذا يأتي على حساب بلدان أخرى.
وللحفاظ على الدول وسيادتها وهياكلها الضريبية العادلة، فمن الضروري الحد من المنافسة الضريبية، ولهذا صادق زعماء دول مجموعة العشرين خلال اجتماعاتها في إيطاليا العام الماضي على اتفاق دولي ينص على فرض ضريبة على الشركات متعددة الجنسيات 15 في المائة كحد أدنى، في خطوة عدها كثيرون "ثورية تاريخية"، وطبقا لمدير مركز السياسة والإدارة الضريبية في منظمة التعاون والتنمية، الذي يعد مهندس هذه الخطوة التاريخية أن هذا الاتفاق سيغير طريقة فرض الضرائب على الشركات العالمية، حيث ولى زمن المنافسة الضريبية التعسفية مع ضرائب لن تقل عن 15 في المائة، ومع توزيع أكثر عدلا لأرباح أكبر الشركات، ولا سيما الرقمية منها.
وترى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD، إن الحد الأدنى 15 في المائة قد يسمح بإيرادات إضافية تبلغ 150 مليار دولار سنويا، لكن رغم التفاؤل الذي ساد بين المشرعين في العالم نتيجة هذا القرار التاريخي، فإن التفاؤل يبدو اليوم أقل في قدرة الدول على تنفيذه والالتزام به بسهولة إقراره، ذلك أن تطبيق هذا المقترح والالتزام به لم يكن أمرا سهلا، كما كان متوقعا. فهذه الإصلاحات تواجه صعوبات في تمريرها على البرلمانات، فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تكافح لتمرير تشريع من شأنه أن يجعل القانون الأمريكي يتماشى مع هذا التوجه العالمي. وهذا جعل اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين الذي عقد أخيراـ يتركز حول آليات التزامهم بتنفيذ إصلاح شامل لقواعد ضرائب الشركات العالمية العام المقبل، والتزموا في بيان مشترك بضمان أن تدخل القواعد الجديدة حيز التنفيذ على المستوى العالمي في 2023، لكن لم يستطع هؤلاء الوزراء إخفاء مخاوفهم من أن الوفاء بالموعد النهائي قد يكون أمرا صعبا، وأن هناك انقسامات واضحة بشأن قدرة الدول على تحقيق ذلك، فيما يرى وزير المالية الفرنسي أنه لا مجال للتراجع، لكن وزير المالية الألماني أكد أن هذا الأمر مشروع كبير ومهم للعدالة الضريبية الدولية، لكنه أيضا جدول زمني مستقبلي طموح بلا شك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي