الاقتصاد الرقمي يغير مفهوم الملكية والاستثمار في فضاء بيانات قيمته 2.8 تريليون دولار
منذ أعوام ومصطلح الاقتصاد الرقمي يحظى بكثير من الاهتمام الدولي، لكن خلال العامين الماضيين حظي المصطلح بدفعة قوية، ساعدت على رواج أكثر له كمفهوم وواقع معيش.
وبعد أن كان المصطلح حكرا على الصحف ووسائل الإعلام المتخصصة في الشأن الاقتصادي، بات يتصدر العناوين الرئيسة في وسائل الإعلام كافة، ويحتل حيزا لا بأس به من الأخبار اليومية.
هذا الاهتمام ترافق دائما مع حديث عن "ما الذي يمكن أن يقدمه الاقتصاد الرقمي لقضايا مثل التوظيف وإعادة توزيع الثروة، وعلاقته بالأتمتة الاقتصادية".
وامتدت التساؤلات إلى طبيعة الأشياء التي يمكن للتكنولوجيا الرقمية أن تقدمها لنا في حياتنا المعاصرة.
وعلى الرغم من أن التناول العام لقضية الاقتصاد الرقمي لا يزال ينحسر في العلاقة بين الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية فقط، ويتغاضى أو يتجاهل الأبعاد الأخرى المتعددة له، فإن النقاشات المتعلقة بمفهوم الاقتصاد الرقمي غالبا لا تقدم تفسيرات بسيطة وسلسة أو واضحة الملامح أو محددة لماهية الاقتصاد الرقمي، وأيضا تغض الطرف عن شرح ما الذي يجعل الاقتصاد الرقمي مختلفا عن الاقتصاد التقليدي؟
حتى الذين يدافعون عن الاقتصاد الرقمي يعجزون في بعض الأحيان عن تقديم مبررات بسيطة ومقبولة لغير المتخصصين لأهميته في الوقت الحالي والمستقبل.
البروفيسور إيوان كريس رئيس قسم الاقتصاد السابق في جامعة برمنجهام، والاستشاري في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يعرف لـ"الاقتصادية" الاقتصاد الرقمي بأنه "النشاط الاقتصادي الذي ينتج عن مليارات الاتصالات اليومية عبر الإنترنت بين الأشخاص والشركات والأجهزة والبيانات والعمليات".
من هذا التعريف، يرى كريس أن ذلك هو سبب المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والصين فيما يتعلق بالقدرة على تسريع الاتصالات عبر الانترنت، حيث إن الاتصال فائق السرعة سيظل العمود الفقري للاقتصاد الرقمي، إذ إن سرعة الإنترنت تسهم في زيادة الترابط بين الأشخاص والمؤسسات والآلات التي تعتمد على الإنترنت وتكنولوجيا الهواتف المحمولة وإنترنت الأشياء.
باختصار، كما يشير كريس إلى أن "الاقتصاد الرقمي مصطلح يجسد تأثير التكنولوجيا الرقمية في أنماط الإنتاج والاستهلاك، يتضمن ذلك كيفية تسويق السلع والخدمات والمتاجرة بها ودفع ثمنها".
مصطلح الاقتصاد الرقمي تطور منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما نمت وتوسعت الدراسات المتعلقة بتأثير الإنترنت في الاقتصاد، وترافق ذلك مع ظهور أنواع جديدة من الشركات ذات التوجه الرقمي وإنتاج تقنيات جديدة، وأسهم ذلك بدوره في توسع الاقتصاد الرقمي ليشمل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والواقع المعزز والافتراضي والحوسبة السحابية والبوك تشين والروبوتات والمركبات ذاتية القيادة. باختصار بات يشمل المصطلح جميع أجزاء الاقتصاد التي تستغل التغيير التكنولوجي الذي يحدث تحولا في الأسواق ونماذج الأعمال والعمليات اليومية.
لذلك فإن مفهوم الاقتصاد الرقمي يغطي اليوم كل شيء، بدءا من قطاعات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات التقليدية والتجارة الإلكترونية والخدمات المصرفية الرقمية وحتى قطاعات اقتصادية تقليدية مثل الزراعة والتعدين أو الصناعات التي تتأثر بالتقنيات الناشئة.
لكن ماذا تقول الأرقام عن هذا الاقتصاد؟ تقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن عمليات نقل البيانات عبر الحدود وبما يسرع النمو الاقتصادي تسهم حاليا - ونحن لا نزال نحبو في فضاء الاقتصاد الرقمي - بنحو 2.8 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي.
وتقول وزارة التجارة الأمريكية "إن أكثر من نصف التجارة العالمية في الخدمات، وهو النشاط الأسرع نموا في الاقتصاد العالمي يعتمد الآن على تدفقات البيانات عبر الحدود.
وفي 2016 قدر معهد ماكينزي العالمي أن تبادل البيانات عبر الحدود قد نما 45 مرة خلال العقد السابق، وتوقع توسعا كبيرا في آسيا.
يعد قياس حركة البيانات عبر الشبكة العنكبوتية أمرا صعبا، لكن الأمر المؤكد أنه يأخذ منحنيات صعوديه بشكل حاد، وتشير بعض التقديرات الدولية إلى أن حركة بروتوكول الإنترنت في عامنا هذا، ستتجاوز كل حركة المرور عبر الإنترنت منذ بداياته حتى 2016. ومن المتوقع أن ترتفع حركة البيانات العالمية الشهرية من 230 إكسابايت "وحدة قياس سعة تخزين في الكمبيوتر وتقاس بالكوينتليون ويعني مليار مليار أي 18 صفرا" عام 2020 إلى 780 إكسابايت بحلول 2026.
لكن بالنسبة إلى كيلي ديفيد الباحثة في مجال الاقتصاد الرقمي، فإن الأرقام على ضخامتها وأهميتها لا تعكس الجانب الوحيد أو الأهم من وجهة نظرها فيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي، وتدعو إلى التعامل مع الأرقام على الأقل في الوقت الراهن بحذر.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأمر لا يقف عند حدود صعوبة قياس البيانات المتدفقة على الإنترنت، التي تعد مؤشرا للاقتصاد الرقمي، إنما الأكثر صعوبة هو معرفة طبيعة وجودة تلك البيانات، لكن ما تكشفه البيانات أنها تتركز جغرافيا في نطاقين الأول بين أمريكا الشمالية وأوروبا والآخر بين أمريكا الشمالية وآسيا، وهذا يكشف أن الاقتصاد الرقمي في الوقت الراهن يعاني اختلالا شديدا إذا أخذنا بلدان العالم كلها في الحسبان".
وتضيف "بالنسبة إلى أقل الدول نموا اقتصاديا فإن 20 في المائة فقط من السكان يستخدمون الإنترنت، ومن ثم تبدو تلك الفئة من الدول مستبعدة حاليا من الاندماج في الاقتصاد الرقمي، ما يوجد في الحقيقة مزيدا من الاستقطاب العالمي بين الدول المتقدمة والاقتصادات النامية، عندما يتعلق الأمر بالقدرة على الانخراط في الاقتصاد الرقمي القائم على البيانات والاستفادة منها".
وفي الواقع فإن تركيز الضوء أكثر على من هم كبار المستفيدين من الاقتصاد الرقمي سيكشف لنا أن نصف مراكز البيانات فائقة السرعة في العالم تتركز في الولايات المتحدة والصين، كما أن الدولتين هما الأعلى عالميا في الاعتماد على شبكة 5G، وفي الأعوام الخمسة الماضية حصلت الدولتان على نحو 94 في المائة من إجمالي تمويل الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، و70 في المائة من كبار الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يوجدون في الولايات المتحدة والصين.
وتدفع تلك الأرقام ببعض الخبراء إلى القول إن معظم دول العالم قد تجد نفسها في مواقع ثانوية في مجال الاقتصاد الرقمي - بما في ذلك أوروبا - إذا تواصلت الهيمنة الأمريكية والصينية على هذا المجال".
إلا أن تلك الهيمنة لا تعد من وجهة نظر خبراء آخرين التحدي الوحيد في طريق عولمة الاقتصاد الرقمي، إذ إن خطورة هذا النمط الاقتصادي الجديد تكمن في تغييره المفاهيم الاقتصادية التقليدية، فالاستخدام المكثف للبيانات يؤدي إلى تغيير نماذج الأعمال ويسهم في إنشاء عمليات وأنشطة اقتصادية جديدة أكثر فائدة وربحية، لكن الأكثر أهمية أن الاقتصاد الرقمي يعزز الدخول في ثقافة اقتصادية وإدارية لا تمت للثقافة الاقتصادية والإدارية السائدة في الاقتصاد التقليدي الراهن بصلة.
ولـ"الاقتصادية" يعلق كريستوفر تيلفر أستاذ الاقتصاد الرقمي في جامعة لندن قائلا "تسمح التقنيات الرقمية للشركات بممارسة أعمالها بشكل مختلف، وبشكل أكثر كفاءة وفاعلية من حيث التكلفة، كما أنها تفتح مجموعة من الاحتمالات الجديدة، وهذا يعني تقديم المنتجات والخدمات لمزيد من المستهلكين، ولا سيما أولئك الذين لم يتم تقديمها إليهم من قبل، كما ستظهر هياكل سوق جديدة تزيل تكاليف المعاملات السائدة في الأسواق التقليدية، وأبرز مثال على ذلك بروز المنصات الرقمية مثل أمازون وأوبر وآير بي آند بي، فهذه الشركات تربط المشاركين في السوق معا في عالم افتراضي، لأنها تكشف الأسعار المثلى وتولد الثقة بين المستهلكين الغرباء بطرق جديدة".
ويضيف "الحدود بين الاقتصاد الرقمي والتقليدي تتلاشى نتيجة تخلل التكنولوجيا في جميع مناحي الحياة".
من هذا المنطلق يعتقد الخبير الاستثماري براين رانكين أن المفاهيم التي سادت في الاقتصاد الحديث في القرنين الـ19 والـ20 ربطت دائما بين الملكية المادية والثراء، والآن هذا المفهوم الجذري يتغير وذلك بفعل الاقتصاد الرقمي، هذا التغير من وجهة نظره لا يزال تتم عرقلته نتيجة القوانين الاستثمارية السائدة في معظم دول العالم، والمبنية على المفاهيم الاقتصادية التقليدية.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "الاقتصاد الرقمي يغير مفهوم الملكية، ومن ثم يغير معه المفاهيم الاستثمارية، فشركة أوبر على سبيل المثال وهي أكبر شركة سيارات أجرة في العالم، لا تمتلك أي سيارة. "فيسبوك" مالك الوسائط الأكثر شهرة في العالم، لا ينشئ أي محتوى. شركة على بابا الصينية، بائع التجزئة الأكثر قيمة في العالم ليس لديه مخزون سلعي، بينما لا تمتلك شركة آير بي آند بي أكبر مزود للإقامة في العالم أي عقارات".
ويعد براين رانكين الاقتصاد الرقمي سيصبح قريبا الاقتصاد العادي نتيجة نمو التقنيات الرقمية في كل قطاع في العالم، إلا أنه يعتقد أن السياسات والمؤسسات لا تزال بطيئة في التكيف مع التحولات الجارية في عالم الرقميات، مؤكدا أن تحقيق اقتصاد أكثر كفاءة لا بد أن يرتبط بسياسات أكثر استجابة للتغيرات الجارية، للاستفادة الكاملة من فرص الربحية المحتملة من إعادة تشكيل الأسواق.