عندما تنطفئ الشموع

تحفل الذاكرة الجمعية بكثير من الأمثلة والتشبيهات التي تصور حال الناس واهتماماتهم وأولوياتهم، وكل بيئة تختلف عن الأخرى في بناء الأمثلة والربط بين مختلف المكونات المحسوسة وغير المحسوسة، وهذا باب دراسات وأبحاث كثيرة تميز العلوم الإنسانية.
من أقدم الأمثلة التي نستخدمها وقد تكون في سبيلها إلى الزوال بسبب التغيير المجتمعي وما أحدثته وسائل التواصل والتقنية من تغييرات بنيوية طالت حتى الفكر والرأي العام، تشبيه المعلم بالشمعة التي تذوب لتنير الطريق للآخرين. تستمر الشمعة في الاحتراق والذوبان، وهي في نظر الناس مضيئة مشرقة لا يشوبها خلل.
لعل العودة إلى ما تعيشه تلك الشمعة في الداخل من المعاناة وقدرتها الفائقة على إخفاء ما تعيشه من احتراق وفقد في بنيتها والمساحات التي تشغلها، يعطينا المبرر الأسمى لذلك الربط الفلسفي المهم، ويعطينا المجال لنشر المفهوم على فئات أخرى في المجتمع، وأهمها الأم التي تمر أعوام عمرها وهي تعطي وتعين وتسهر وتتألم، وفي حقها يجوز استخدام المثل، بل قد يزيد ما تعانيه من ذلك. على أن المجتمع يسمح للأم بالشكوى والبكاء، وهو بذلك يمنحها فسحة للتنفيس عن معاناتها.
إن ما يعيشه المجتمع من تكريس حالة القوة والتحمل التي يفترضها في الرجل، تجعل من الأب مثالا أقرب إلى الواقع. فالرجل الذي يرأس العائلة تقليديا، مطالب برباطة الجأش وتحمل الصعاب والمواجهة في أغلب المواقف دون أن يبدي الضعف أو الخوف أو الشكوى. بل إنه قد يقسو على أبنائه وبناته في مراحل مختلفة تجسيدا لرغبته في أن يكونوا الأفضل، فيفعل ذلك وقلبه يتقطع من الألم، لكنه ينظر إلى القادم ويعلمهم مما تعلمه من الماضي.
فلكل من يرى القسوة في مظهر أبيه، والشدة في تعامله، تذكير أن ما يحدث أمامك لا يجسد أبدا ما يشعر به الأب، وهو يحاول أن يقوم ما أعوج من سلوكك، لأنه لا يوجد من يتمنى أن تكون أفضل منه، ولا أن تنال أحسن مما نال، سوى والدك.
فلكل الشموع المضيئة، الاحترام والتقدير، ورجاء الفوز والسعادة بنجاح وتفوق وستر الأبناء والبنات، ولتلك الشموع التي انقضت وانطفأت بعدما احترقت لتنير الطريق وقدمت الغالي والنفيس وسكبت الدموع وسهرت الليالي، كل الحب والتقدير والدعاء بالفوز بالجنان وعفو ومغفرة الرحمن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي