رفع الفائدة يهدد ديون الاقتصادات الناشئة.. 95 تريليون دولار
بعيون يملؤها مزيج من الأمل والقلق في آن، يراقب صناع القرار الاقتصادي في الأسواق الناشئة معركة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للسيطرة على التضخم في الولايات المتحدة عبر رفع أسعار الفائدة هذا العام.
المعركة الأمريكية ستنعكس حتما على الاقتصادات الناشئة وبقوة. فلأعوام واصل محافظو البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة رفع أسعار الفائدة لديهم، سعيا منهم للتفوق على الاقتصاد الأمريكي في جذب المستثمرين، لكن جوانب المعادلة تهتز الآن وتتغير، وها هي الولايات المتحدة تستعد لرفع أسعار الفائدة بعد أعوام قارب فيها معدل الفائدة الأمريكي الصفر تقريبا، تلك الخطوة يمكن أن تزعزع استقرار الاقتصادات الناشئة بإيجاد أجواء مربكة ومنفرة لرؤوس الأموال الأجنبية، بما يدفعها إلى مغادرة تلك الأسواق والاستقرار في الولايات المتحدة.
لكن خطوة الفيدرالي الأمريكي المتوقعة الشهر المقبل، ستترك في الأغلب آثارا سلبية في عملات الأسواق الناشئة وستضعف عملاتها المحلية في مواجهة الدولار، والأكثر خطورة إمكانية أن تترك بصمات شديدة السلبية على مديونية الدول الناشئة إلى الحد الذي يدفع بعض الخبراء إلى التحذير من أن 2022 ربما يشهد انفجار ما يطلقون عليه فقاعة ديون الدول الناشئة.
ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، يحفز أغلب الاقتصادات الناشئة على إعادة هيكلة ديونها السيادية، وهذا من وجهة نظر الخبراء أمر مقلق اقتصاديا، لأن عملية الهيكلة غالبا ما تكون مصحوبة بتدابير تقشفية لها كثير من الضغوط الاجتماعية، ما يسبب تشنجات طبقية واحتقانا فئويا شديدا، بما يعرقل عملية إعادة الهيكلة، أو يحث القائمين عليها على إعادة النظر فيها أو في سرعتها في أفضل تقدير.
وحيث إن الحديث ينصب على قضية ديون الاقتصادات الناشئة، فإن التقييمات المتعلقة بعمليات إعادة الهيكلة من زاوية العلاقة بين المقترضين والمقرضين لا تزال محاطة بكثير من التعقيدات، في ظل غياب آليات دولية مقبولة من الطرفين. هذا الوضع يدعو الخبراء إلى الدعوة لإجراء إصلاحات عاجلة في البنية الاقتصادية لكثير من الاقتصادات الناشئة لمنع أزمة الديون من التفاقم.
مخاوف الخبراء بشأن مديونية الاقتصادات الناشئة تستند في حقيقة الأمر إلى علامات تحذير باتت واضحة بشكل لا تخطئه عين، فمدفوعات الفائدة على الدين العام كنسبة مئوية من الإيرادات العامة في الاقتصادات الناشئة تبلغ حاليا ضعف نظيرتها في الاقتصادات المتقدمة، وبالطبع الوضع أكثر سوءا في الاقتصادات منخفضة الدخل إذ تبلغ أربعة أضعاف الوضع في الاقتصادات المتقدمة، وقبل عشرة أعوام كان هذا المؤشر متشابها في جميع الدول تقريبا.
الاستشاري السابق في البنك الدولي بيتر ايان، لا ينكر تعقيدات قضية مديونية الاقتصادات الناشئة، لكنه يحمل الجزء الأكبر من المشكلة للخلل الراهن في الآليات الدولية لمعالجة المشكلة.
وقال لـ"الاقتصادية": "الآليات التقليدية ولا سيما نادي باريس باتت مشوشة وغير فعالة، وغياب آلية فعالة لإعادة هيكلة الديون يؤدي إلى تقلبات خطيرة في السوق ويزيد المخاطر المتعلقة بالاقتراض".
وأضاف "هناك أيضا تعقيدات تتعلق بالإفصاح بشكل صادق ودقيق عن حجم وشروط الديون المستحقة، وهذا ما يعيق جهود مجموعات دولية مثل مجموعة العشرين لصياغة اتفاق ما حول شكل التقاسم العادل للأعباء، خاصة أن هناك تغيرا في مصادر التمويل الدولية أبرزها دخول الصين بقوة على خط الإقراض الدولي". لكن الدكتور شيرلي بيجرستف أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن تنظر إلى أبعاد قضية مديونية الاقتصادات الناشئة من زاوية أخرى ترتبط بصندوق النقد الدولي وقدرته على التعامل مع الاحتياجات المالية المتزايدة للأسواق الصاعدة، وسط تشكك من جانبها في قدرته على تمويل تلك الاحتياجات.
وقالت لـ"الاقتصادية": "إن رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الكبرى في العالم سيفسد بيئة الاقتراض الدولي، وخلال الأعوام الماضية تجنبت معظم الاقتصادات الناشئة الاقتراض من صندوق النقد الدولي لأنه يضع شروطا قاسية للإقراض، بينما أسواق المال الدولية كانت أكثر مرونة لأن أسعار الفائدة منخفضة، ومن جانب آخر كانت هناك سيولة مالية عالمية ضخمة من العملات الرئيسة مثل الدولار واليورو نتيجة سياسات التحفيز المالي".
وأضافت "إذا ما قام الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة ثلاثة أضعاف المعدل الراهن خلال 2022، فإن الاقتصادات الناشئة لن تواجه بارتفاع أسعار الاقتراض من أسواق المال الدولية فقط، ولكن يمكن لخطوة كتلك خاصة إذا ترافقت مع سلوك مشابه من قبل المصارف المركزية الرئيسة مثل بنك إنجلترا والمركزي الأوروبي، فإننا قد نجد أنفسنا في وضعية اقتصادية دولية تنخفض فيها أسعار العديد من المواد الخام الأولية، وانكماش في أسواق الاستيراد، وإذا خرج الاقتصاد العالمي من مسار التعافي، فيمكن أن تواجه الاقتصادات الناشئة بانفجار في أسعار الأصول وسوق الائتمان".
بالطبع يعني ذلك أن الأسواق الناشئة ستواجه بضغوط قوية على ميزان المدفوعات، ولن يكون هناك ملاذ آمن لمعظمها غير اللجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على قروض إنقاذ كبيرة، وفي الأغلب لن يكون من السهل الحصول على تلك القروض من أسواق رأس المال الدولية.
المشكلة من وجهة نظر الدكتورة شيرلي بيجرستف، أن تلك الطلبات بالاقتراض من صندوق النقد الدولي ستكون متزامنة تقريبا، وسيصعب على الصندوق تلبيتها جميعا، يضاف إلى ذلك أن الصندوق يواجه مشكلة سداد الأرجنتين لما عليها من قروض للصندوق حيث بيونس آيرس أكبر متلق لقرض مسجل من الصندوق.
لا ينفي الخبير الاستثماري مالكوم اليوت، أن التشوش الراهن في الآليات الدولية لمعالجة قضية الديون الخاصة بالاقتصادات الناشئة، وإمكانية أن يؤدي طلب دولي من قبل عدد من الأسواق الصاعدة للاقتراض من صندوق النقد الدولي في الوقت ذاته إلى انفجار فقاعة المديونية لدى الدول الناشئة، ألا أنه يؤيد وجهة النظر التي ترى أن القيمة الإجمالية لديون الأسواق الصاعدة تظل هي جوهر المشكلة في الوقت الحالي.
وعلق لـ"الاقتصادية" قائلا: "ديون الاقتصادات الناشئة تقترب من 95 تريليون دولار، والدين الحكومي في الأسواق الناشئة يبلغ حاليا نحو 63 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وهذا رقم قياسي".
واستدرك قائلا: "إذا استبعدنا حصة الصين من ديون الأسواق الناشئة فإن إجمالي ديون الأسواق الصاعدة سيبلغ نحو 37 ترليون دولار نتيجة زيادة الديون الحكومية خاصة في العامين الماضيين بسبب جائحة كورونا، وعلى الرغم من أن 95 في المائة من ديون الأسواق الناشئة منذ نهاية 2019 كانت في سندات بالعملة المحلية، إلا أن المشكلة تظهر في تراجع جاذبية هذا النوع من الديون بين المستثمرين الأجانب الذين يمتلكون حاليا 20 في المائة من الديون بالعملة المحلية، وعلى الرغم من أن تلك النسبة تعد مقبولة، إلا أنه إذا واصلت التراجع نتيجة فقدان المستثمرين الأجانب الثقة بعملات الاقتصادات الناشئة نتيجة زيادة قوة الدولار، وبدأت الأسواق تشهد عمليات بيع كثيفة من قبل المستثمرين الأجانب للسندات المقومة بالعملة المحلية، فإن ذلك سيوجد حالة من الذعر ستمتد حتما للمستثمرين المحليين، وستنفجر فقاعة الديون".
وأضاف "المشكلة حتى الآن يمكن احتواؤها، ورغم أن الأسواق الناشئة قد تواجه رياحا معاكسة في الربع الأول من هذا العام، فإننا نعتقد أن توقعات الاستثمار في 2022 تظل إيجابية بشكل عام، حيث يتوقع عوائد بنحو 2.7 في المائة للديون السيادية بالعملة الصعبة و4.4 في المائة للديون السيادية بالعملة المحلية، ولكن إذا تغير المشهد فإن أزمة مديونية الاقتصادات الناشئة واقعة لا محال في 2022".