قرار استراتيجي .. عوائد وكفاءة

بداية بفهم اقتصادي عام هناك سؤال مهم لا بد من طرحه: ما التوزيع الأمثل لهيكل رأس المال في أي شركة، أو كيان اقتصادي؟ لقد كان هذا الموضوع ولا يزال أحد أكثر الموضوعات جدلا، لأنه لا يمكن ربط هذه المسألة بنموذج ثابت متفق عليه تماما، فنظرية المقايضة ترى أن هيكل رأس المال لا علاقة له بقيمة الشركة، ذلك أنها تعتمد على الأرباح المستقبلية المتوقعة. لذلك، فإن قرار هيكلة تمويل أي كيان يعد قرار توازن بين عدة قضايا في آن واحد، ففي كثير من الكيانات الاقتصادية المدرجة في أسواق الأسهم مثلا، فإن قرار هيكلة رأس المال يتأثر بشكل كبير بسياسة توزيع الأرباح، فتوزيعات الأرباح تحتوي على محتوى معلوماتي يؤثر في سعر السهم، وفي المقابل فإن الديون التي تستخدمها الشركة لتمويل عديد من مشاريعها تفضله الشركات لأن أثره غير مستدام في التوزيعات حيث يمكن التخلص منها بمجرد سداد القروض. لذا، فإن الشركات توازن في تمويل هيكلها المالي بين الديون، أو حقوق الملكية، أو الأوراق المالية المختلطة التي تصدرها.
ومع نمو الشركات، واستمرارها في العمل، فإنها حتما ستواجه قرارات تتعلق بكيفية تمويل مشاريعها وعملياتها المختلفة، وهنا تلعب نظريات هيكل رأس المال دورها للإجابة عن هذا السؤال. وعموما، فإن الكيانات تفضل تمويل نفسها داخليا أولا، من خلال الأرباح المحتجزة، ما يرسل إشارة إلى الأسواق أنها قوية ماليا، أو من خلال الديون لتؤكد بوضوح بأنها واثقة بقدرتها على الوفاء بمصروفات خدمات الدين الشهرية، قبل أن تقرر التمويل من خلال إصدار أسهم جديد كحل أخير.
لكن هذا أيضا يعتمد على عوامل متعددة أخرى، من بينها نسبة حقوق الملاك مقارنة بالديون، فحقوق الملكية الواسعة على الأصول يمنح ضمانات أكبر للمقرضين بما يعزز حصول الكيانات على قروض بمعدلات فائدة رخيصة نسبيا، وهذا التحليل النظري صحيح أيضا في شأن هيكل تمويل المالية العامة، التي قراراتها بين التمويل من خلال الإيرادات الفعلية، والتمويل من خلال الاحتياطيات أو التمويل من خلال الاقتراض.
وأيا كان القرار، فإنه يحمل في طياته رسائل اقتصادية ومحتوى معلوماتيا ذا أهمية بالغة. وفي هذا السياق يأتي إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، بنقل 4 في المائة من أسهم شركة الزيت العربية السعودية "أرامكو"، إلى صندوق الاستثمارات العامة، ليقدم رسائل واضحة بشأن هيكلة رأسمال الصندوق من جانب، وهيكلة الإيرادات العامة للدولة من جانب آخر، ويقدم إشارة ومحتوى مهما للأسواق، والمؤسسات الائتمانية.
ولتحليل هذا الإعلان لا بد من الوقوف على أهم ثماره، وتكمن في أن نقل هذه الأسهم بين هذه الكيانات الاقتصادية هو جزء من استراتيجية طويلة المدى الهادفة إلى دعم إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، بما يتماشى مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030، فالأمر مبني على خطة نوعية تشمل نقل عديد من حقوق الملكية من قطاعات اقتصادية إلى أخرى، بما يسهم في تعظيم الاستفادة من هذه الأصول وتحرير حركة الأموال، بما يخدم القضايا الاقتصادية الكلية الرئيسة.
وقد حدث هذا الأمر عندما تم بيع ما نسبته 1 في المائة من أسهم أرامكو في سوق الأسهم السعودية، ما حرر جزءا من التدفقات النقدية لأرامكو، حيث تسهم في تنمية مدخرات الأفراد، وتنمية إيرادات القطاع الخاص، كما تم بيع شركات مطاحن الحبوب للقطاع الخاص، لتحرير هذا القطاع وفتح مجالات المنافسة فيه، والأمثلة كثيرة. ولي العهد، أشار في ثنايا بيان نقل 4 في المائة من أسهم أرامكو إلى صندوق الاستثمارات العامة إلى أن الدولة لا تزال المساهم الأكبر في شركة الزيت العربية السعودية، بعد عملية النقل، حيث تملك أكثر من 94 في المائة من إجمالي أسهم الشركة. ومن القضايا المهمة الأخرى لهذا القرار الاستراتيجي، دعم خطط الصندوق الهادفة إلى رفع حجم أصوله تحت الإدارة إلى نحو أربعة تريليونات ريال بنهاية 2025، وهذه نقطة حيوية، فصندوق الاستثمارات العامة جزء لا يتجزأ من هيكل الاقتصاد الكلي، ونقل الأموال بين المحافظ الاستثمارية للدولة لا يخل بقيمة الهيكل الاقتصادي الكلي، لكنه عند مستوى الهيكل الجزئي لصندوق الاستثمارات العامة يسهم في تعظيم أصول الصندوق دون أن يكون هناك تمويل خارجي يتطلب دفع الفائدة مع تقلبات أسعار الفائدة الراهنة، وضبابية الأسواق المالية.
هذا التحرك بين هيكل الاقتصاد الكلي وتعظيم هيكل رأس المال في صندوق الاستثمارات العامة يحمل محتوى معلوماتيا بالغ الأهمية حول متانة المركز المالي للدولة بكل قطاعاتها، وأدواتها الاقتصادية.
وقد أثبت صندوق الاستثمارات العامة أنه الذراع الأكثر كفاءة منذ إعادة هيكلة الصندوق في 2016، فالصندوق يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافه الرئيسة المتمثلة في تعظيم قيمة أصوله، حيث قفزت أصول الصندوق إلى 163 في المائة بما يعادل 248 مليار دولار خلال أول خمسة أعوام من تطبيق رؤية 2030، لتبلغ 400 مليار دولار بنهاية 2020، كما تستهدف الاستراتيجية الجديدة للصندوق رفع أصوله إلى أكثر من أربعة تريليونات ريال بنهاية 2025، وصولا إلى عشرة تريليونات ريال بحلول 2030. وبالتأكيد، فإنه كلما ارتكزت هذه التحولات الكبيرة على هيكل تمويل متوازن وقوي، كانت عوائد الصندوق أكبر وأكثر كفاءة، وذلك سعيا إلى تعزيز دور الصندوق كمحرك فاعل لتنويع الاقتصاد السعودي، وتعميق أثر ودور السعودية في المشهد الاقتصادي الإقليمي، والعالمي.
هيكل التمويل الذكي لهذه الأصول الضخمة، هو المرتكز الأساس من أجل تحقيق دور الصندوق الاقتصادي، ولهذا فإن نقل هذه الحصة من أسهم أرامكو، يعزز مركز الصندوق المالي القوي، وبالتالي تصنيفه الائتماني المرتفع على المدى المتوسط، حيث يعتمد الصندوق في خطته التمويلية على قيمة الأصول والعوائد الاستثمارية من الأصول تحت الإدارة. وهنا لا بد من الإشارة إلى قرار وكالة فيتش للتصنيف الائتماني بمنح صندوق الاستثمارات العامة تصنيفا مصدرا طويل الأجل عند A، مع نظرة مستقبلية مستقرة، إلى جانب منح وكالة موديز تصنيفا مصدرا عند A1 للصندوق، وتصنيف Aaa كأعلى تصنيف لدى الوكالة في خمس فئات فرعية، ويأتي ذلك نظرا إلى تنوع محفظة الصندوق، والسياسات المالية له، ونسبة الاقتراض، وقدرته على تغطية تكلفة التمويل ومعدلات السيولة المالية، وهذه الموضوعات هي المحك الرئيس في بناء هيكل رأس المال، وتنوع مصادره.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي