حتى لا نكون ملاذا لهم
وفقا لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة الموقعة في باليرمو عام 2000 المتعلقة بغسل الأموال والجريمة المنظمة العابرة للحدود، فقد تم تعريف جريمة غسل الأموال بأنها العملية المنظمة التي يتم من خلالها تبرير عائدات نشاط إجرامي بإخفاء مصدرها غير المشروع. وجريمة غسل أموال تقع إذا تم أولا تحويل أو نقل الممتلكات مع العلم أن هذه الممتلكات هي عائدات جريمة، ثانيا الإخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو ملكيتها أو الحقوق المتعلقة بها، مع العلم أن هذه الممتلكات عائدات جريمة، وثالثا اكتساب الممتلكات أو حيازتها أو استخدامها مع العلم، وقت التسلم، وأن هذه الممتلكات عائدات جريمة. وتم وضع المعيار الدولي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب من قبل مجموعة العمل المالي FATF، وهي منظمة مؤلفة من 33 عضوا تتولى المسؤولية الأساسية عن تطوير معيار عالمي لمكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب.
وفي هذا الشأن، بذلت المملكة جهودا مضنية وواسعة في مكافحة جرائم غسل الأموال، حيث صدر نظام مكافحة غسل الأموال الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/20) عام 1439هـ، وصدر كذلك نظام مكافحة الإرهاب وتمويله بالمرسوم الملكي رقم (م/21) عام 1439هـ، وصدر نظام مكافحة التستر بمرسوم ملكي رقم (م/4) عام 1442هـ، وبذلك استكملت المنظومة القانونية التي ترجمت كل الأفعال التي تهدف إلى تبرير عائدات الأنشطة الإجرامية، وفي مقابل ذلك شجعت السعودية الاستثمار الأجنبي المبني على الشفافية والتقارير المالية المدققة.
وكل هذه التنظيمات التشريعية القانونية تضع المملكة في المكانة العالمية المناسبة لها كدولة ناجحة في مكافحة الجريمة والتستر عليها ومكافحة الجرائم المنظمة العابرة للحدود، وهي تقدم النماذج والمشاهدات الصادقة التي تؤكد من خلالها أنها ليست مأوى أو ملاذا آمنا للمجرمين، ومن ذلك ما انتهت إليه الجهود التي بذلتها النيابة العامة إلى إقامة ورفع الدعوى على تشكيل عصابي منظم مكون من 11 متهما - مواطنين وتسعة وافدين - في ارتكاب جرائم غسل أموال ومخالفات نظام مكافحة التستر عن طريق استغلال عدد من الكيانات التجارية وفروعها في تلقي وتحويل أموال مجهولة المصدر من حساباتها البنكية تجاوز مجموعها عشرة مليارات ريال، وصدر حكم ابتدائي من المحكمة المختصة بسجن المتهمين لمدد مجموعها 52 عاما، وبغرامات مالية بلغت 62 مليونا و500 ألف ريال، ومصادرة الأموال وموجودات المحافظ الاستثمارية التي تم ضبطها، وبلغ مجموعها مليونا و672، و862 ريالا، وإبعاد الوافدين بعد انقضاء محكوميتهم، ومنع المواطنين من السفر مدة مماثلة لسجنهما. وحققت السعودية ممثلة في كل القطاعات التي عملت على كشف هذه الجريمة والتشكيل العصابي، والجهود التي بذلت من أجل جمع كل الأدلة التي ثبت ضلوع هذا التشكيل في كل الجرائم التي نسبت إليه وبما يحقق للقضاء المستقل أن يصدر الأحكام الصحيحة والمناسبة.
وبقراءة تصريح النيابة العامة، فإن هناك عديدا من الوقفات، فالقضية قد شملت عدة قضايا أساسية، من بينها ارتكاب جرائم التستر، وتلقي الأموال من الخارج بصورة غير نظامية، واستغلال الكيانات التجارية من أجل تنفيذ هذه الجرائم، وكما تشير المبالغ التي تم تلقيها، حيث تجاوز مجموعها عشرة مليارات ريال، إلى وجود جرائم مثل الفساد والاتجار بالمخدرات والتلاعب بالسوق والاحتيال والتهرب الضريبي، إلى جانب نية إخفاء عائدات هذه الجرائم أو تعزيز مشروع إجرامي، فهذه الأنشطة جميعها تعمل على توليد تدفقات نقدية بعيدا عن الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية المنتجة، كما أن لهذه التحويلات آثارا سلبية في القطاع المالي وكذلك التزامات المملكة بالاتفاقيات العالمية ومكانتها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
ومن اللافت للنظر أن تصريح النيابة العامة أشار إلى وجود تشكيل عصابي منظم عابر للحدود، وقد أقرت اتفاقية باليرمو عام 2000 في المادة الخامسة منها تجريم المشاركة في جماعة إجرامية منظمة، وأقرت الاتفاقية أن تقوم كل دولة باتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم عدد من الأفعال عندما ترتكب عمدا، من بينها الاتفاق مع شخص آخر أو أكثر على ارتكاب جريمة خطيرة لغرض يتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بالحصول على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى أو القيام بعمل من قبل أحد المشاركين في تعزيز الاتفاق أو إشراك جماعة إجرامية منظمة، ومن تلك الأفعال، السلوك الذي يقوم به الشخص عن علم بهدف جماعة إجرامية منظمة ونشاطها الإجرامي العام أو بعزمها على ارتكاب الجرائم المعنية. فالمملكة تؤكد من خلال هذا الإنجاز الأمني دورها في مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود والمتضمنة غسل الأموال وجرائم أخرى.
ومن المناسب أن نتذكر هنا مقولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنه لن ينجو أحد تورط في جريمة فساد، وتحقيقا لهذا المفهوم الشامل الذي تم من خلاله تطوير كثير من الأنظمة والحوكمة المصرفية والمؤسسية عموما وانسجاما مع ما أقرت به اتفاقية باليرمو في المادة السابعة بأن على كل دولة وضع نظام رقابي شامل للمصارف والمؤسسات المالية المصرفية منها وغير المصرفية، لردع وكشف جميع أشكال غسل الأموال، وكذلك إنشاء وحدة بحث مالية لتكون بمنزلة مركز وطني لجمع وتحليل ونشر المعلومات المتعلقة بالأموال المحتمل تورطها في جريمة غسل الأموال. وبالعودة إلى تصريح النيابة العامة، يظهر الدور الذي قامته به نيابة الجرائم الاقتصادية في النيابة العامة من تحقيقات لكشفت التشكيل العصابي المنظم المكون من - مواطنين ووافدين، ما يرسم صورة واضحة بشأن صدق عزم المملكة على محاربة الفساد والجرائم المنظمة بما يتفق مع الاتفاقيات الدولية السارية والمعتمدة في هذا الشأن.