تأرجح العملات .. توتر وفائدة
يمر الاقتصاد العالمي بشكل عام بمرحلة انتقالية صعبة، تشكلت عمليا من مخلفات الأزمة الناجمة عن تفشي وباء "كورونا"، ويحقق هذا الاقتصاد بعض التقدم عبر وتيرة من النمو، لكن الأمور لم تستقر نهائيا بعد، بفعل ما تبقى من آثار سلبية من الجائحة العالمية، واستمرار الخلافات التجارية بين دول محورية على الساحة الدولية، التي تشكل القاعدة الأساسية لمؤشرات النمو الاقتصادي.
وإزاء هذا المشهد والوضع أتت الأزمة الأوكرانية لترفع حال التوتر ليس على الساحة السياسية فحسب، بل في الميدان الاقتصادي. وبدأت ملامح تداعياتها تظهر على المؤشرات كافة، ومنها عبر تأرجح بعض العملات الرئيسة، لعدة أسباب، فضلا عن أزمة الطاقة التي زادت من حضورها على الساحة الأوروبية، وارتفعت حدتها، وأعادت طرح السؤال القديم المتجدد عن أمن الطاقة بشكل عام في القارة العجوز. علما بأن تأرجح العملات ليس له رابط مباشر بتداعيات الأزمة الأوكرانية، فهو يتصل أكثر بحراك البنوك المركزية بشكل عام، خصوصا الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" بشأن مستويات الفائدة.
وحققت العملات الرئيسة ارتفاعات متفاوتة خلال الآونة الأخيرة، لأن أغلبية البنوك المركزية أقدمت على رفع أسعار الفائدة لديها، حتى لو بمستويات متواضعة جدا، في حين أبقى البنك المركزي الأوروبي على معدل الفائدة الصفرية دون تغيير، في سياق استمرار سياساتها المستندة إلى التيسير المالي في ظل هذه الظروف الاقتصادية العالمية. لكن الأنظار تتجه إلى الفيدرالي الأمريكي من كل الجهات، ولا سيما مع تصاعد التهديدات بنشوب مواجهة عسكرية روسية - أوكرانية، سيكون لدول حلف شمال الأطلسي "الناتو" الدور الأكبر في الدفاع عن "شبه الحليف" أوكرانيا. فالحروب تضرب كل قطاعات الاقتصاد من العملات إلى النمو وحركة النقل والتجارة والطاقة وسلاسل الإمدادات وغيرها، فكيف الحال والمواجهة المحتملة ستجري في أوروبا ذاتها؟ التي تعاني أصلا أزمات في بعض مؤشرات نموها الاقتصادي قبل انتشار الجائحة.
المشكلة التي تتعاظم مع الأزمة الأوكرانية، أنها تصاحب ارتفاعا مخيفا لمعدلات التضخم حول العالم تقريبا. فعلى الساحة الأمريكية بلغت النسبة الأعلى على الإطلاق منذ أربعة عقود، وكذلك الأمر في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا ودول أخرى. وستكون تأثيرات رفع الفائدة مباشرة في العملات من هذا الجانب الأساسي. ويبدو واضحا أنه لا مناص من تنفيذ البنوك المركزية هذه الخطوة، بصرف النظر عن مستوى التوتر العالمي الحالي الناجم عن المواجهة المرتقبة بين أوكرانيا وروسيا. فالدول لم تعد تحتمل الارتفاع المخيف لما أصبح يعرف بـ"آفة التضخم"، حتى إن الحكومات فيها باتت تواجه تهديدات سياسية قد تودي بها في أول انتخابات مقبلة. ولأن الأمر كذلك، فقد قررت البنوك رفع الفائدة بالتدريج وبمعدلات منخفضة، لكيلا ترفع من حدة أي إرباك محتمل في هذا المجال.
لكن لا بد من الإشارة إلى الهدوء الذي شهدته الأسواق في الأيام الماضية، التي تنتظر بالطبع القرار الأمريكي الخاص بالفائدة الشهر المقبل، وتخشى في الوقت نفسه من تأثر العملات الرئيسة بالخطوة الأمريكية شبه المؤكدة. وهذا أمر طبيعي، لأن المستثمرين سيرفعون من قيمة استثماراتهم بالدولار الأمريكي، للاستفادة من أي رفع للفائدة حتى لو كانت عند 30 نقطة أساس. فالزيادات ستصل وفق مخططات "الفيدرالي الأمريكي" إلى 120 نقطة أساس قبل نهاية العام الجاري. وفي كل الأحوال، ستنعكس بالتأكيد أي تطورات دراماتيكية للأزمة الأوكرانية الراهنة على المشهد الاقتصادي العام.
فالمسألة لا تتعلق فقط بعملات متأرجحة أو متراجعة أو مهددة بفائدة أمريكية ترتفع مع كل موسم، بل تشمل مستقبل العلاقات بين قوى نووية ليست صديقة بما يكفي في الوقت الراهن للوصول إلى حلول سياسية لأزمة أوروبية ليست جديدة.
وفي كل الأحوال والظروف، لا تزال للدبلوماسية مسارات ومبادرات في هذا الميدان، لإيجاد حلول مناسبة ترضي جميع الأطراف لوقف أي احتمال من جانب روسيا لغزو أوكرانيا. لكن المؤكد على الساحة الاقتصادية أن الولايات المتحدة متجهة حتى نهاية هذا العام على الأقل إلى رفع الفائدة لأسباب تتعلق بساحتها الاقتصادية المحلية.