لمنافسة عادلة ولفك الاحتكار
تعد وسائل النقل العام العمود الفقري لأنظمة النقل الحضري في معادلة مؤشرات الاقتصاد الحديث، ولهذا تهتم اقتصادات النقل العام بجعل هذا القطاع أكثر فاعلية وحركة، وأقوى نشاطا، بمعنى أنه يتم استخدام الموارد المتاحة بأفضل طريقة ممكنة لتحقيق الأهداف، وهذه أكبر التحديات التي تواجه هذا القطاع.
وإذا كانت وسائل النقل العام تعرف بأنها استخدام مركبات عالية السعة في طرق وجداول زمنية محددة، فإن التحدي الأساسي الثاني الذي يواجه هذا القطاع يتمثل دوما في التنسيق بين من يستخدمون المركبات ذات السعة العالية، وتوافر تلك المركبات، حيث إن المجتمعات ترى لها حقا في الوصول إلى النقل العام في أي وقت، ومن أي مكان، بغض النظر عن آليات العرض، والطلب، والإيرادات والتكاليف.
إن إتاحة هذه الوسائل دون تبريرات اقتصادية كافية في مناطق معينة قد يضعها تحت ما يسمى زيادة التكلفة الاجتماعية غير المبررة نتيجة التشجيع على الإفراط في استخدامها، بينما تواجه مناطق أخرى شحا في توافر هذه الوسائل، فالتنسيق في هذا الشأن يعد تحديا.
التحدي الثالث يكمن في أن مسارات النقل العام قد تواجه اختلالات حادة في الطلب، قد تولد تكلفة تشغيلية أعلى، فالاختلالات في الطلب على مسار النقل العام يمكن مقابلتها من خلال زيادة تردد الخدمة على المسار، لكن هذا ليس على إطلاقه، فالتحكم في عدد الترددات له نماذج اقتصادية يصبح بعدها الأمر غير مجد اقتصاديا.
هكذا هي الصورة، فالنقل العام وسيلة حضارية، وضرورية في الوقت نفسه، وهي الأطول عمرا، ومفخرة اقتصادية، وبالتالي يجب المحافظة على سلامة العلاقات الاقتصادية بين التكلفة التشغيلية، والمنفعة المقدمة للمستخدمين.
هذا الشرط الاقتصادي يتحقق عندما يتم تشغيل هذه الوسائل، وفقا لأسلوب القطاع الخاص القائم على هذه العلاقات الدقيقة، الذي يحقق أعلى مستوى من استخدام الأصول، مع أكبر مستوى من كفاءة التشغيل، التي تحقق له عوائد كافية للاستدامة، لكن كل ذلك في ظل حوكمة اقتصادية شاملة تضمن للمستخدمين لهذه الوسائل حق الوصول إلى الخدمات والمسارات.
وفي هذا السياق الاقتصادي، أعلنت الهيئة العامة للنقل فتح باب الاستثمار في تقديم خدمات نقل الركاب بالحافلات لربط أكثر من 200 مدينة ومحافظة في السعودية، من خلال 76 مسارا على أساس تعزيز التكامل بين مختلف أنماط النقل، وبما يحقق مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتهدف إلى تعزيز مكانة السعودية كمركز لوجستي عالمي يربط القارات الثلاث، كما تهدف إلى الارتقاء بخدمات ووسائل النقل العام كافة، مع تعزيز التكامل بين منظومة الخدمات اللوجستية وأنماط النقل الحديثة، فخدمات نقل الركاب بالحافلات تأتي في إطار متكامل من خطط ومستهدفات لتعزيز دور النقل العام ووسائله في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة العربية السعودية 2030. ويستهدف المشروع نقل أكثر من ستة ملايين راكب سنويا من خلال أكثر من 300 نقطة توقف في 76 مسارا، تقطع 200 مدينة ومحافظة يخدمها نحو 560 حافلة عاملة، وأكثر من 150 مليون كيلومتر مقطوع سنويا.
كما سيسهم هذا المشروع في توفير أكثر من 35 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، ويتكامل مع مشاريع ومستهدفات أخرى ذات الأبعاد السياحية، فوجود نقل عام يوفر خدمات نقل تشمل مساحات كبيرة من المناطق سيكون له آثار بعيدة المدى في التنمية السياحية، التي بنموها يتزايد الطلب على خدمات النقل العام، مع تضاعف جودتها.
الهيئة العامة للنقل تبنت نموذج حوكمة فاعلة لتحقيق الاستخدام الأمثل لهذه الموارد الاقتصادية وتخصيصه بطريقة تضمن تحقيق أعلى المنافع لجميع الأطراف، سواء المستثمرين أو المستخدمين.
وقد تم أخيرا إتاحة الفرصة للمستثمرين من القطاع الخاص للمنافسة في تقديم خدمات نقل الركاب بالحافلات على أسس من الابتكار والكفاءة، التي يجب أن يقدمها القطاع الخاص والشركات المتخصصة، التي يؤمل في أن ترفع من جودة الخدمات وتنوعها. ويشكل القرار بيئة اقتصادية مثالية لتنافسية الشركات، وبالتالي سيعود بالنفع الكبير على الاقتصاد المحلي. خطة النقل الجديدة تحقق أهدافا عدة، من بينها فك الاحتكار في نقل الركاب بالحافلات، وتحقيق منافسة عادلة، ذلك لأن المنافسة تعد الضامن الأول لتحقيق الجودة في توفير خدمات نقل أفضل، وحافزا لجذب الاستثمارات والمستثمرين.