جولة مع الجمال .. مغامرة في براري كينيا
هل تبحث عن بساطة تشبه حالة الهدوء؟ نزهة بطيئة، حذرة عبر برية متلاشية، لا يعوقها حمل الحضارة الحديثة الثقيل - أو الحاجة إلى حمل حقائبك الخاصة؟
يتم ترتيب ذلك بسهولة. كل ما تحتاج إليه هو طائرة صغيرة، وطائرة هليكوبتر (اختيارية، ولكن مفضلة)، و15 جملا لحمل الأمتعة، وثمانية رجال للعناية بالجمال ونصب المعسكر، إضافة إلى خبيرين اثنين في الحياة البرية لتوجيه تجربتك والحفاظ على سلامتك. يتضح أن البساطة، يمكن أن تكون مسألة معقدة من الناحية اللوجستية.
لقد انضممت أخيرا إلى هذه البعثة الاستكشافية لمدة أربعة أيام على حافة هضبة لايكيبيا في وسط كينيا، هبطت بنا طائرة هليكوبتر (تم توجيه الطيار "للبحث عن التلال التي تبدو مثل الأدمغة") فيما كان بالنسبة إلى عقلي الحضري أطراف الأرض. بالتأكيد، بالسرعة المحسوبة التي مشينا بها مجهدين عبر أحراش شجيرات الأكاسيا، كنا على بعد عدة أيام من أقرب مستوطنة بشرية.
طوال فترة وجودنا هناك لم نر أي سيارة ولا أي علامة واضحة على الحداثة، على الرغم من أن المناظر الطبيعية نفسها قد شكلها آلاف الرعاة وقطعان الماشية التي ترعى الكلأ. صادفنا شظايا من أدوات الزجاج البركاني الأسود الفاحم وبعض رسومات الكهوف ذات اللون الأبيض الناصع فيما كان ذات يوم مستوطنة في العصر الحجري، تستوطنها الآن مجموعة من قرود البابون الصاخبة (المستدقة الرأس) التي تضفي صرخاتها وتسلقها إحساسا بفيلم "كوكب القرود" Planet of the Apes إلى مشهد عاش فيه الإنسان قبل 300 ألف عام.
لم يكن هناك شيء واضح من عصرنا، باستثناء جذع شجرة محترقة - عمل ربما قام به جان عصري للعسل. صدمنا ذات مرة لاكتشاف قطعة من النفايات البلاستيكية، وأنبوب غامض باللون الأبيض الحليبي اتضح أنه جلد مطروح لأفعى الكوبرا.
كان البلاستيك الحقيقي الوحيد الظاهر هو الشيء الأسود اللامع في جيبي. كان هاتفا محمولا، دون إشارة ولا كهرباء أصبح الآن مجرد لوح خامل.
هذه أرض قديمة. تدفقت الحمم البركانية هنا منذ 12 مليون عام على صخور عمرها نحو 800 مليون عام. تآكلت المناظر الطبيعية التي كانت ذات يوم بارتفاع جبال الهيمالايا، وانتهت إلى ارتفاعها الحالي البالغ نحو 6500 قدم فوق مستوى سطح البحر، وهي مسطحة لكن تتخللها صخور جرانيتية حمراء تسمى تلالا. ويقع على مرأى العين جبل كينيا البركاني الخامل، الذي يعود إلى ثلاثة ملايين عام فقط.
دليلنا هو غابرييل إيوي، راع من شعب سامبورو، أقرباء قبيلة الماساي. عندما كان صبيا، اكتسب غابرييل معرفة واسعة بالأدغال من صياد يعيش على ما يصيده تولى تربيته بعد وفاة والده. تعلم اللغة الإنجليزية في مدرسة تبشيرية على بعد ستة كيلو مترات كان يذهب إليها سيرا على الأقدام من منزله. إنه الآن في أوائل الأربعينيات من عمره، وبالنسبة إليه الأرض تقرأ مثل أي كتاب. يقول متوسلا "انظر، شم، اسمع. حاول الحصول على كل المعلومات التي يمكنك الحصول عليها من الأدغال".
عند منتصف المسافة التي قطعناها بحثا عن مشاهد محتملة للحيوانات - ربما حمار وحشي من نوع جريفي النادر، التي نرى عديدا منها - يبحث غابرييل عن أدلة أصغر: آثار أقدام حيوان ما، علامات حشرة دبت على الأرض، شعر حمار وحشي عالق بعمود حك جسمه به، الروث المتناثر هنا وهناك، الثقوب والجحور في التربة الحمراء، التراب الذي يحمل آثار جر الخطى.
أينما نرى الزهور، والنباتات والحشرات، يرى غابرييل صيدلية: ورقة تهدئ الحمى، ونملة لادغة تستخدم للجروح، وقطرة أذن من زيت الصبار في زهرة كوميلينا غير ملتفة. عندما لا نرى شيئا، يرى بطاقة التواصل المرمزة بالألوان الخاصة بالضباع على ورقة عشب واحدة. "اللون الأبيض يعني ’سأعود في غضون خمس دقائق‘"، كما يقول، مبتسما في مجسماته التشبيهية الخاصة. "واللون البني يعني ’هذه منطقتي‘".
في أمسيتنا الأولى، نخيم في سهل مفتوح ويظهر جبل كينيا خلف السحاب. المشهد البسيط في ظاهره - الذي تنظمه كاريسيا ووكينج سفاريز المحلية - فاخر من غير ريب نظرا لبعدنا وقوة الجمال والقوى العاملة اللازمة للنقل والتجميع.
توجد خيام من القماش الأخضر مريحة وطويلة بما يكفي للوقوف فيها ومجهزة بفرشة إسفنجية وأغطية وملاءات. ويوجد دش محمول من الشادر لكل ضيف ومرحاض من الشادر، بداخله مقعد مرحاض ذي صندوق مرتفع فوق حفرة محفورة حديثا. الدش ساخن بشكل لذيذ، والماء يسخن على نار في الهواء الطلق ثم ينهمر، بشد الحبل، على الأطراف المتعبة والشعر المغبر.
الضيوف الآخرون في المجموعة ليسوا جددا على المغامرات. ويل جونز زميل في الجمعية الجغرافية الملكية ومؤسس جورنيز باي ديزاين، التي تقدم رحلات سفاري حسب الطلب وما يسميه تجارب "خارج الخريطة" أو "خارج جوجل". زوجته لورا مارشال-أندروز، طبيبة عامة في برايتون، وهي مؤلفة وطالبة في مختلف المناهج الثقافية للطب.
يصبح روتيننا متوقعا بشكل مريح. فكل يوم، يتم تفكيك المخيم، وتحميله على الجمال ونقله إلى الموقع التالي، حيث يعاد نصبه بطريقة سحرية قبل وصولنا. بعد الإفطار، ننطلق في وقت مبكر من الصباح ونسير لمدة ست ساعات تقريبا، ونصل إلى المخيم الجديد بحلول وقت الغداء، تلتها فترة راحة بعد الأكل ونزهة مسائية سيرا على الأقدام ربما تصل لمدة ثلاث ساعات.
المشي سهل ويسبب الإدمان. في اليوم الأول، كنا مليئين بالحديث الحماسي. الآن انخفضت أصواتنا وأصبحت كهمسات أمين المكتبة. ونقضي فترات طويلة في صمت مع الضربات المتزامنة لأقدامنا على الأرض الجافة لتحديد الوقت.
تمضي معظم الجمال في طريقها إلى الأمام، لكن يبقى ثلاثة منها لحمل الحقائب التي نستخدمها في النهار والماء - وإذا أردنا، تحملنا. نستسلم للإغراء مرة واحدة فقط، للقيام بجولة في المعسكر في اليوم الثاني. كان لدي انطباع بأن للجمال مزاجا سيئا وعدوانيا. أما هذه الجمال فهي الرزانة بعينها، رموش طويلة وهادئة وهي تشق طريقها برشاقة، وتمضغ نباتات الصبار أثناء سيرها.
لقد قررنا على عشاء الليلة الأولى أن عملنا سيكون بحثا عن "الخمسة الصغار". كان غابرييل قد رأى للتو زبابة الفيل تعدو عبر الطريق. الزبابة مخلوق طويل الخطم يشبه القوارض، وعلى الرغم من أبعادها المتواضعة، إلا أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالحيوان الأكبر الذي يحمل اسمها. إنها واحدة مما يسمى الصغار الخمسة – النظائر المصغرة لـ"الخمسة الكبار" التي يتم تسويقها على أنها أشياء لا غنى عن مشاهدتها في رحلات السفاري التقليدية. ونظرا لأن غابرييل يعلمنا أن نفكر على نطاق صغير، يبدو من المناسب أن نبحث عن عوامل الجذب الصغيرة الأربعة المتبقية: أسد النمل، وخنفساء وحيد القرن، وطائر الجاموس الحائك، وسلحفاة النمر.
في صباح اليوم التالي، انطلقنا مبتهجين في رحلة، أصبحت في رأيي رحلة سفاري تشبه رواية "هورتون يسمع من". ففي قصة الدكتور سوس من عام 1954، يساعد الفيل هورتون أشخاصا صغارا بحجم النانو في قرية هوفيل حيث يقيمون على بقعة من الغبار. وعلى الرغم من أنهم غير مرئيين في نظر هورتون، إلا أن مواطني هوفيل منسجمون تماما في عالمهم.
ثم حدث شيء غريب على نطاق واسع في غمار رحلتنا عبر السفاري أيضا. فكما بدا في أحد المشاهد من الكوميديا التلفزيونية "الأب تيد" عندما كان الأب دوغال يعاني لأجل استيعاب مفهوم المنظور، كانت تبدو الأفيال البعيدة، إيلاند ووترباك صغيرة الحجم للعين المجردة، حيث كانت تبدو كمخلوقات يبلغ طولها بوصة واحدة يمكن تمييزها بشكل صحيح فقط باستخدام المنظار.
لكن على النقيض من ذلك، أصبحت هذه المخلوقات الصغيرة وحوشا مرعبة على بعد بضع بوصات. في إحدى المناسبات، وجد غابرييل عنكبوتا عملاقا كثيف الشعر (حسنا، بحجم حبة مندلينا). وبينما كنت مفتونا بالتكوين المخيف لهذا العنكبوت، تساءلت إلى أي مدى سأكون متوترا لو كان حجمه كالسيارة. في وقت لاحق، كنا نشاهد خنفساء روث خضراء اللون تنطلق من عنق زجاجة وتحوم لتطير أفقيا مثل أي طائرة هليكوبتر من طراز هوفيل.
يحاول غابرييل بانتظام اختبار معرفتنا المتنامية وإن كانت لا تزال سطحية في التعرف على آثار المخالب والحوافر أو، خيرا من ذلك، إذا نمت لدينا مهارة التعرف على الروث. كتبت في دفتر ملاحظاتي "سفاري استكشاف الروث". هذا الروث لونه أبيض ناصع بسبب هضم العظام (الضبع)، وذاك مبعثر وقد اختلط برؤوس النمل الأبيض (آكل النمل)، أما هذا فهو بحجم حبوب الفلفل الأسود (صغير الوعل)، وهذا الصوف القطني الرقيق (النمر).
ثم قام غابرييل بلفت انتباهنا إلى قمع مقعر بحجم الإبهام في الأرض الرملية: إنه فخ مخصص للنمل. كان النمل يتعثر في الداخل، وبينما شعرت يرقة النمل بالاهتزاز، حيث اختبأت في الأسفل، انقضت على نملة بفكيها لتحقن سما يشل حركتها. ثم قمنا بإغراء إحدى هذه اليرقات بالخروج من خلال تقليد اهتزازات النملة. وبالنظر إلى فكها السفلي المخيف والغرائز القاتلة التي تتسم بها، فقد أسعدني أن هذه اليرقة كانت أصغر من حبة البازلاء.
إن سعينا وراء ما يسمى الخمسة الصغار يتعثر، لكن هناك كثيرا من الأشياء الأخرى التي تذهلنا. يعمل غابرييل، وكأنه شيرلوك هولمز في الأدغال، على إعادة تمثيل الجرائم دائما. نرى هنا لغز قرون غزال الإمبالة عالقة في شجرة. واكتشفنا أيضا من خلال آثار مخالب نمر، مشهدا للقتل والسحب، حيث سحبت جثة حيوان فيما تركت المخالب أثرها على جذع شجرة. وبمزيد من العمل البوليسي قمنا بحل قضية البيض المتناثر. حين تبين أن الجاني هو نمس وضحيته كانوا خمسة من صغار السلاحف.
يساعد غابرييل في تحقيقاته التي أجراها رفيقه الذي يتصرف مثل "واطسون"، وهو سائس الجمال والمراقب حاد النظر نتاتيون (حرف "النون" صامت). وفي اليوم الثالث، عندما اقتربنا من نهر إيواسو نغيرو، الذي يتدفق من جبل كينيا باتجاه الصومال، صفر تاتيون فجأة. ليس بعيدا عنا وجدنا سلحفاة كانت على مرأى من الجميع. كانت بحجم طبق العشاء، إنها أنثى، وقد أمكن تمييزها من خلال البقعة الخشنة على ظهر قوقعتها.
وبعد السباحة في النهر الذي كان يتدفق بسرعة - ليس لذوي القلوب الضعيفة - وجدنا رابع الصغار الخمسة؛ خنفساء وحيد القرن. وجدنا زوجين منها على روث البقر (وهو دليل على رعي الماشية، وبالتالي يدل على وجود البشر) حيث كانا كالمقاتلين في إحدى ألعاب الفيديو اليابانية.
في صباح اليوم التالي كان المشي هو الأخير لي في هذه الرحلة. لقد تحولت الأرض من حمراء إلى سوداء. وفتح غابرييل ونتاتيون أعينهما جيدا بحثا عن طائر الجاموس الحائك من أجل إكمال مجموعة الحيوانات التي نبحث عنها. لكننا وجدنا حلزونا أرضيا عملاقا، يمكن أن يصل طوله إلى ثماني بوصات، على الرغم من أن هذا الحلزون كان أصغر من ظفر إصبعي. سخر ويل منه قائلا: "إنه ليس ممثلا مناسبا لأبناء جنسه". كنا نمشط الأرض وننظر حولنا لعدة ساعات، ولا وجود لطائر جاموس حائك يمكننا العثور عليه. لكن رؤيتنا لجاموس حقيقي هو عزائي الصغير.
مع ذلك، بقيت أمامنا مغامرة أخيرة. كانت تنتظرنا في معسكر تومارين، القاعدة الرئيسية لكاريسيا، مروحية إتش 130 وطيار الأدغال الشهير جيمي روبرتس. كان روبرتس، الرجل ذو الحديث الخشن، والشعر الأشيب في الخمسينيات من عمره، يتبجح كعامل مزرعة وضحكته تأتي من حلقه المليء بالنيكوتين. كان روبرتس نجل أحد صيادي التماسيح، وقد أسس شركة تروبيك إير قبل 31 عاما بطائرة واحدة من طراز دي هافيلاند بيفر، لكنه الآن يملك أسطولا من الطائرات والمروحيات. وعندما لا ينقل روبرتس السياح، فإنه يرش أسراب الجراد التي تهدد أجزاء من شرق إفريقيا الآن.
ركبنا المروحية في غضون ثوان وأصبحت تحوم باتزان كأي خنفساء روث، قبل أن تنطلق بسرعة على ارتفاع بضع مئات من الأقدام فوق الأرض، بينما يتناثر قطيع ضخم من البلشون الأبيض كما تتناثر قصاصات الورق في حفل الزفاف.
يقوم روبرتس بالمناورة في المروحية مثل الدراجة نارية بينما نقوم بالمطاردة هنا وهناك، ونحن نتابع مسار النهر، ونلتف حول التلال، وننخفض للأسفل على مستوى الأحراش الشجرية وننطلق لرؤية قطعان الأفيال أو مشاهدة عش النسر الأسود يتربع على قمة صخرية لأحد التلال. إن ما يقرب من نصف المروحية هو عبارة عن نافذة، لذا فإن المناظر التي نشاهدها كانت رائعة والإحساس باندفاع الأرض من تحت أقدامنا وكأننا نحسها فعلا. لا يسعني إلا أن أتخيل هذا وكأنه يشبه ركوب المكنسة السحرية.
بدأنا نقترب من نتوءات صخرية منتفخة أخرى، على ارتفاع عدة مئات من الأقدام، وصرت ألهث عندما أدركت أن روبرتس يحاول الهبوط هنا. يحاول روبرتس الاقتراب لكن الريح تدفعنا للخلف ثم يلتف بصعوبة حول الصخرة ليحاول الهبوط مرة أخرى. ويدمدم: "أنا كالكلب الطاعن في السن الذي يحاول الطير حول الزوايا". يعاود روبرتس المحاولة تارة أخرى، لكن هذه المرة بنجاح. هبطنا من المروحية في البقعة نفسها تماما التي صور فيها ديفيد أتينبورو اللقطة الافتتاحية لسلسلته الوثائقية عن إفريقيا. روبرتس يعرف أين هي لأنه أحضر أتينبورو إليها بنفسه.
بعد احتساء فنجان من القهوة، أقلعنا مرة أخرى، وبعد مرور 20 دقيقة من المناورات الخاطفة للقلب والمناظر المدهشة، قمنا بإنزال ويل ولورا في قاعدة أخرى على تلة. ثم مضيا قدما لإكمال مغامرتهما.
استمريت في التوجه إلى بلدة نانيوكي، من حيث طرت قبلا، لكن هذه المرة على متن طائرة هليكوبتر بدفع مروحي أمامي، عائدا إلى نيروبي. في وقت لاحق وردني إشعار من تطبيق واتساب عن رسالة من ويل. كتب فيها أنه بعد دقائق من مغادرته لطائرة الهليكوبتر التي كنا نستقلها معا، وجد غابرييل أخيرا طائر حائك الجاموس أبيض الرأس. على الرغم من أن التحليق في الهواء مثير، إلا أنني أعتقد أنه من المفيد دائما أن نكون على الأرض.