معضلة الطاقة النووية .. أين يتم التخلص من النفايات القاتلة؟
كل صباح يضع بينوا غناز جهازا أسود صغيرا في جيبه العلوي للتأكد من أن عمله لا يقتله. مثل جميع العاملين في منشأة الطاقة النووية شوز إيه Chooz A شمالي فرنسا، يحمل كاشفا يقيس مستويات الإشعاع المؤين في جميع الأوقات.
تم إيقاف تشغيل المفاعل منذ أكثر من ثلاثة عقود وأزيلت المواد الأكثر خطورة بعد فترة وجيزة، لكن لا أحد هنا يخاطر – خاصة مدير المشروع الذي يشرف على عملية إيقاف تشغيل المفاعل الصعبة والطويلة. تتمثل وظيفة غناز في التأكد من إزالة المواد الخطرة المتبقية في الموقع وتخزينها بعيدا بشكل آمن بعد أن انتهت دورة حياة المفاعل.
لكنه يقول من الممكن التعامل مع المخاطر. يتم قياس التعرض للإشعاع بالسيفرت. وتعرض المرء لما يعادل 1 سيفرت قد يسبب له المرض، ومن المرجح أن يقتله التعرض لخمسة سيفرت. في أكثر من 15 عاما في هذا المجال، يقول غناز إن أعلى تعرض سنوي حصل عليه على الإطلاق كان 0.05 ملي سيفرت، أي واحد في الألف من السيفرت.
يقول وهو يقف على بعد خطوات قليلة من بركة متلألئة فيها أوتاد سميكة من معدن شديد الإشعاع: "هل تعتقد أن كل من يعمل في الخارج يخاف من حروق الشمس؟ في الواقع لا، فهم يضعون واقيا من الشمس. وليس كل من يعمل في المجال النووي يخاف من الإشعاع. أنا أخاف أكثر إذا طلب الطبيب مني إجراء أشعة سينية لست بحاجة إليها".
لكن كثرة الحذر في شوز إيه - واحد من ستة مفاعلات نووية ضخمة قيد الإغلاق من قبل شركة الكهرباء الفرنسية، وهي شركة المنافع التي تسيطر عليها الدولة والتي تمتلك وتدير جميع محطات الطاقة النووية الفرنسية - تؤكد المستوى العالي من الحساسية الذي لا يزال يحيط بهذه التكنولوجيا حتى في فرنسا، آخر معقل للطاقة النووية في أوروبا.
لقد أدى احتمال حدوث انهيارات كارثية في المحطات النووية، كالحادث الذي وقع في تشيرنوبيل عام 1986، إلى ابتعاد الحكومات عن هذه التكنولوجيا. وبعد كارثة فوكوشيما النووية قبل عشر أعوام، أعلنت ألمانيا أنها ستغلق جميع محطاتها للطاقة النووية بحلول 2022 وتعهدت بلجيكا بإغلاق جميع منشآتها بحلول 2025.
مع ذلك، كانت هناك موجة من الاهتمام المتجدد بالطاقة النووية خلال العام الماضي. أيدت حكومات فرنسا، والولايات المتحدة، والصين، والهند أخيرا بناء محطات نووية جديدة في الأعوام المقبلة، ومن المتوقع أن يصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوامر جديدة في الأسابيع المقبلة. ومن المتوقع أيضا أن يصل إجمالي الاستثمارات في المجال النووي إلى 45 مليار دولار هذا العام و46 مليار دولار في عام 2023، ارتفاعا من 44 مليار دولار في عام 2021، وفقا لتحليل شركة ريستاد إنرجي، مع وجود 52 مفاعلا قيد الإنشاء حاليا في 19 بلدا حول العالم.
جاذبية الطاقة النووية تكمن في الحاجة إلى مصدر طاقة موثوق وخال من الكربون لاستكمال مصادر الطاقة النظيفة، إلا أنها غير متسقة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. أدرجت المفوضية الأوروبية أخيرا الطاقة النووية فيما يسمى "التصنيف الأخضر" للصناعات المؤهلة للتمويل المستدام، ما أثار انتقادات من بعض العلماء ونشطاء تغير المناخ.
لكن مع تنامي الزخم لتشييد جيل جديد من محطات الطاقة النووية في أوروبا وأماكن أخرى، هناك القليل من النقاش حول التكاليف الباهظة والتعقيد الناتج عن تفكيك المحطات في نهاية عمرها الافتراضي الذي يبلغ 50 عاما تقريبا. ولم يقدم أحد حتى الآن إجابة مرضية على السؤال المتعلق بما يجب فعله بآلاف الأطنان المترية من النفايات النووية عالية الإشعاع، التي يمكن أن يظل بعضها مشعا، وبالتالي مميتا، لمدة تصل إلى 300 ألف عام.
يعتقد أن ربع مليون طن متري من قضبان الوقود المستهلك منتشرة في 14 دولة حول العالم، معظمها مجمعة في أحواض تبريد في محطات نووية مغلقة، حيث يحتار المهندسون والمتخصصون في النفايات في كيفية التخلص منها بشكل دائم. ويعتقد كثيرون أن هذه المنشآت غير محمية من المنظمات الإرهابية وأنها قد تتسبب في حدوث تسريب أو حرائق كارثية.
من الممكن أن تكون تكلفة صيانة هذه المواقع كبيرة، وتستمر لعقود. يحتوي مفاعل سيلافيلد النووي في المملكة المتحدة، مثلا، على أكبر مخزون من النفايات النووية غير المعالجة على وجه الأرض، تشمل 140 طنا من البلوتونيوم. وعلى الرغم من إغلاق المصنع في عام 2003، إلا أنه لا يزال أكبر موظف خاص للناس في كمبريا. حيث يواصل أكثر من عشرة آلاف شخص عملية تنظيف باهظة الثمن من المتوقع أن تستغرق أكثر من 100 عام تكلف أكثر من 90 مليار جنيه استرليني.
يقول دنيس فلورين، الشريك في شركة لافواسيير كونسي الاستشارية، التي تركز على استشارات إدارة الطاقة في باريس: "لم يتمكن أي شخص في أي مكان في العالم من إنشاء مكان يمكننا فيه دفن النفايات النووية السيئة للغاية إلى الأبد. لا يمكننا الاستمرار في استخدام الطاقة النووية دون أن نكون جادين بشأن النفايات، ودون التسليم بأننا بحاجة إلى إيجاد حل دائم".
مع مفاعل شوز إيه، تحاول فرنسا فعل ذلك بالضبط - في الأثناء تنشئ نموذجا أوليا لكيفية إيقاف التشغيل بشكل أكثر كفاءة. إذا نجحت فقد يساعد ذلك في إقناع دعاة حماية البيئة بأن الطاقة النووية لها دور تلعبه في إيجاد كوكب أكثر صداقة للبيئة. لكن لا يزال هناك الكثير من المعارضة الشعبية لأفضل خيار موجود على الطاولة للنفايات: دفنها.
إرث مفاعل مستهلك
التحدي المتمثل في تنظيف مفاعل شوز إيه لا يكمن في الموقع نفسه بقدر ما يكمن في المواد التي كانت موجودة بداخله. تم إغلاق المنشأة في عام 1991، وفي غضون ثلاثة أعوام، تم إخلاء 99.9 في المائة من المواد عالية النشاط الإشعاعي إلى مصنع متخصص على بعد 620 كيلو مترا في لاهاي، شمال غرب فرنسا.
وفقا للقانون الفرنسي، يجب إزالة العناصر الأكثر إشعاعا لمحطة ما، والوقود والقضبان، في أقرب وقت ممكن بمجرد إغلاقها - في تناقض صارخ مع السياسة المتبعة في معظم أنحاء العالم الأخرى، حيث يتم التعامل مع المنتجات الأكثر خطورة في المرحلة الأخيرة.
تمت إعادة تدوير بعض هذه المنتجات منذ ذلك الحين. ففي عملية كانت فرنسا في ريادتها، تمت إعادة معالجة كم كبير من اليورانيوم والبلوتونيوم والمواد الكيميائية الانشطارية وتحويلها إلى وقود جديد في موقع لاهاي، في حين تم تحويل النفايات الكيميائية التي لا يمكن إعادة استخدامها إلى مواد شبيهة بالزجاج، أو إلى زجاج، لتخزينها على المدى القصير في مواقع ضحلة تحت الأرض.
وعلى الرغم من أن شركة الكهرباء الفرنسية تقول إن 23 ألف طن من الوقود المستهلك الذي أعيدت معالجته في لاهاي يكفي لتزويد الأسطول النووي الفرنسي بالطاقة لمدة 14 عاما، يشير النقاد إلى حقيقة أنه لا يمكن إعادة استخدام الوقود إلا مرة واحدة وأن العملية نفسها توجد مزيدا من النفايات المشعة، دون توفير حل طويل الأمد.
بدأت عملية تفكيك باقي مفاعل شوز إيه في عام 2007، بعد أن حصل على إذن قانوني من الدولة، ومن المقرر أن تكتمل بحلول عام 2024، بتكلفة إجمالية 500 مليون يورو. لكن النفايات الأكثر خطورة التي تتم إزالتها من الموقع ستظل مشعة لعدة قرون مقبلة، وربما لآلاف الأعوام.
لقد عبثت الدول بإلقاء هذه النفايات في الفضاء أو دفنها في قاع البحر، لكن هذه الأفكار عدّت في النهاية إما مستحيلة وإما خطيرة للغاية.
لكن حلا واحدا طويل الأجل فقط يعد آمنا ومعقولا بوجه عام: استخدام المستودعات الجيولوجية العميقة، حيث يمكن تخزين المواد المشعة تحت الأرض بعدة مئات من الأمتار في التشكيلات التي تتكون من الطين، والملح الصخري والجرانيت التي لم تتحرك منذ ملايين الأعوام.
لكن لم ينجح أحد في القيام بذلك حتى الآن. اقتربت الولايات المتحدة من تحقيق ذلك، حين ضخت 15 مليار دولار في مشروع لدفن النفايات تحت جبل يوكا في نيفادا، لكن تم التخلي عن هذه المبادرة في نهاية المطاف بسبب مواجهتها رد فعل شعبيا عنيفا ومستمرا. أعاقت معارضة مشابهة من المجتمعات المحلية محاولات البحث عن مواقع للدفن في ألمانيا، والمملكة المتحدة، واليابان.
خصصت بعض الدول مواقع مؤقتة للمحاولة مرة أخرى. فبعد مضي عقود طويلة من التخطيط والتفاوض مع أهالي إحدى الجزر النائية، ستقوم فنلندا بدفن نفاياتها المشعة في أنابيب نحاسية في مدفن يقع على عمق 1400 قدم تحت صخر الجرانيت في جزيرة أولكيلوتو. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل موقع الدفن في عام 2023.
فرنسا حددت موقعها خارج بوري مباشرة، على بعد 300 كيلو متر شرق العاصمة باريس، حيث يمكن أن يتم دفن النفايات المشعة. يتألف المشروع المعروف باسم سيغيو من مركز أبحاث يقع فوق شبكة من الإنفاق والأقبية على عمق 500 متر تقريبا تحت سطح الأرض، وقد كلف المشروع حتى الآن 2.5 مليار يورو واستغرقت البحوث فيه 25 عاما.
ومن المقرر أن تقرر الحكومة الفرنسية هذا العام ما إذا كانت ستعلن عن قابلية الموقع للاستخدام رسميا باعتباره خيارا للتخزين، الأمر الذي سيؤدي إلى التحضير لسلسلة أخرى من مراحل البناء والترخيص التي ستتمخض عن إيداع العينات السامة الأولى بين عامي 2035 و2040.
يتمثل الطموح في إغلاق جميع الإنفاق بشكل لا رجعة فيه بحلول عام 2150، مع إبقاء المخلفات مغطاة بكتل من الأسمنت أو الفولاذ داخل العازل النهائي – وهو طبقة جوفية من الطين تتمتع بخصائص مثالية كي تبقي أي مادة قد تتسرب لأي سبب محصورة في داخلها. يجب أن تفقد هذه المادة المتسربة خواصها الإشعاعية في غضون 100 ألف عام وهي الفترة التي ستستغرقها إلى أن تتغلغل في الطبقات أخرى.
المقاومة المنشطرة
اجتذب مشروع سيغيو المعارضة الصاخبة نفسها التي ظهرت في مواقع الدفن المحتملة الأخرى. ونتيجة لذلك، أصبحت قرية بوري، التي يقل عدد سكانها عن 100 نسمة، ساحة معركة يشتبك فيها المتظاهرون بانتظام مع الشرطة حول مستقبل الموقع.
أقام المتظاهرون "بيتا للمقاومة" في بوري وأصبح نقطة جذب للمتظاهرين المناهضين للأسلحة النووية في جميع أنحاء البلاد. تم تجهيزه بغرفة للعرض الضوئي ومراتب للترحيب بالضيوف ومطبخ مشترك مريح.
يقول النشطاء إن موقع بوري أصبح يمثل قضية أوسع. بحسب رجل قانون يبلغ من العمر 29 عاما أطلق على نفسه اسم أنطوان، وهو أحد بضع نشطاء كانوا يشغلون هذا الحصن في صباح يوم ثلجي هذا الشهر: "بعيدا عن قلقنا من هذه النفايات، فإن الإنتاج النووي أكثر من كل شيء هو الأمر الذي يقلقنا". أضاف: "من المفترض أن يكون مصدر طاقة منخفض الكربون، لكن عليك بناء المفاعلات (...) إنه حل خطير ومدمر".
مع ذلك، ترى الدولة أن المخاطر التي لا يمكن إنكارها للطاقة النووية تفوقها فوائدها المحتملة باعتبارها طريقة عملية من حيث التكلفة لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وفقا لتقرير صدر العام الماضي عن مشغل الشبكة الفرنسية، آر تي إي، أرخص وسيلة تستطيع فرنسا من خلالها الوصول إلى حياد الكربون بحلول عام 2050 تشمل بناء 14 مفاعلا جديدا.
في ظل السيناريوهات التي عرضتها آر تي إي، إذا لم تقم فرنسا ببناء مفاعلات نووية جديدة واعتمدت حصريا على التوسع في مصادر الطاقة المتجددة وإطالة عمر الطاقة النووية الحالية، فإن هذا الحل سيكلفها عشرة مليارات يورو سنويا أكثر من اللجوء إلى الخيارات الأخرى، بما في ذلك بناء المفاعلات الجديدة، مع إضافة تكلفة إيقاف التشغيل في الفاتورة النهائية.
لكن قد لا يؤخذ هذا السبب في الحسبان من أجل إقناع المواطنين الفرنسيين باستضافة مثل هذه المرافق في ساحات منازلهم الخلفية. تقول آن ماري هين، المتقاعدة التي تقيم في بوري، إن المشروع أجبرها هي وزوجها، الفنان جاك، على التخلي عن حلمهما بتأسيس ورشة للرسم في المبنى الملحق بمنزلهما. تضيف: "نرغب في المغادرة، لكن منزلنا لم يعد يساوي شيئا الآن".
ويقول إد لايمان، كبير علماء الأمن العالمي في حزيران (يونيو)ن أوف كونسيرند سيانتيستس، الذي أمضى عقودا في البحث في سلامة الطاقة النووية، إن الدليل العلمي وراء دفن النفايات النووية قوي، ومخاطر التآكل أو التسرب ضئيلة. لكن لا تزال هناك أخطار حقيقية على عامة الناس، كما يقول، مثل الحوادث التي تقع أثناء نقل المواد إلى الموقع.
يضيف: "قد يكون هناك ثمن يجب على (المجتمعات) الاستعداد لقبوله من أجل تحمل التخلص من النفايات ومخاطرها، لكننا لا نعرف ما هو هذا الثمن حتى الآن. إذا كان الثمن مرتفعا نوعا ما، فسيؤدي ذلك في النهاية لإضافته إلى تكلفة التخلص من هذه النفايات".
ضخت السلطات المحلية الملايين من اليوروهات على شكل إعانات وتعويضات في المنطقة لدعم المشروع والسكان. في بوري ترجم ذلك إلى وضع أعمدة إنارة مبهجة مصطفة على جانبي كل شارع بجانب الحظائر والمنازل الحجرية، وحصلت العائلات أيضا على اتصال بالإنترنت عبر الألياف الضوئية وتم تحسين شبكات الصرف الصحي.
تقول هين: "علينا التعامل مع هذا الهراء. على الأقل يمكننا الاستفادة قليلا من هذه (الإعانات)".
لكن اهتمامات عديد من المجتمعات تتجاوز المخاطر المباشرة لتطرح مزيدا من الأسئلة الوجودية، مثل كيف يمكننا أن نضمن ليس فقط لأطفالنا وأحفادنا، بل للأشخاص الذين سيعيشون في المستقبل بعد آلاف الأعوام، أن لديهم المعرفة والفهم الكافي للتعامل مع هذه النفايات بمسؤولية؟ وكيف يمكننا أن نتأكد من أن حاويات التخزين التي طورناها الآن ستصمد أمام اختبار الزمن؟
تقول هين: "ما سنحصل عليه هنا هو الجوهر الخطر الحقيقي للنفايات"، مضيفة أن "الأجيال القادمة" هي التي تسبب لها القلق.
فيما تقوم وكالة أندرا الحكومية الفرنسية المسؤولة عن إدارة النفايات النووية، بدراسة طرق لتحذير الأجيال المقبلة مما يكمن تحت قرية بوري - ربما عن طريق كتابة معلومات مجهرية على قرص صلب من الياقوت، مصمم لمقاومة التآكل، في حال تم نسيان الموقع. تقول المتحدثة باسم الشركة، أودري غيليمينيه: "حتى إذا فقدنا ذاكرتنا الجماعية، سيظل موقع التخزين آمنا".
لكن إذا فشلت مثل هذه الابتكارات في إقناع المشرعين الفرنسيين ولم يحظ الموقع بالموافقة، فإن ذلك يترك للحكومة مشكلة تتجاوز المليارات التي أنفقتها على البناء. وكما تقول غيليمينيه: "نحو 50 في المائة من النفايات التي من المقرر أن تأتي إلى هنا في نهاية المطاف هي موجودة بالفعل". انس الجيل القادم من محطات الطاقة، فالمواد التي مضى عليها عقود من الزمن والتي أزالها غناز وأسلافه من شوز أيه هي مشكلة تحتاج إلى حل. إذا لم تكن قرية بوري هي الحل، فما هو إذا؟